بقلم/ سيد الأسيوطي

الكاتب والسياسي المصري، ورئيس منتدى السلام العربي ومنسق إئتلاف إحنا الشعب

شهدت الساعات والأيام الأخيرة تطورات متسارعة في المشهد السوداني، خصوصًا في إقليم دارفور وكردفان، حيث تشير روايات عديدة إلى نجاح قوات الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في توجيه ضربات موجعة لمواقع حيوية تابعة لقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”. تفيد المعطيات المتداولة بأن قوات الجيش السوداني، مدعومة سياسيًا ولوجستيًا من أطراف إقليمية، تمكنت من استهداف تمركزات حساسة للدعم السريع في دارفور، واستعادة مناطق واسعة في كردفان، إلى جانب تحقيق اختراقات في بعض مناطق الفاشر. هذا التقدّم أسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا في صفوف قوات الدعم السريع، واضطرار مجموعة من قادتها للفرار من ساحات المواجهة، ما أحدث خلخلة في منظومة القيادة والسيطرة داخل الميليشيا، وحوّل كثيرًا من أوهام القوة إلى حالة من الارتباك ومحاولة النجاة الفردية.

هروب عدد من القادة، وتزايد الخسائر البشرية والميدانية، ترافق مع فشل حميدتي في الحصول على شحنة مسيّرات صينية كانت مخصّصة لتعزيز قدرته في مواجهة القصف الجوي. وتذهب بعض المصادر إلى أن هذه الشحنة تعرّضت للاستهداف لحظة وصولها، الأمر الذي حرم الدعم السريع من ورقة عسكرية كان يعوّل عليها في قلب موازين القوى، وجعل قواته أكثر هشاشة أمام الضربات الجوية والصاروخية الدقيقة.

في ظل هذه الضغوط الميدانية، تقول مصادر عديدة إن الاتصال المباشر بحميدتي بات شبه مستحيل خلال الساعات الأخيرة، وإن الرجل يتوارى الآن في منطقة غير معروفة بعد تعرض مواقع قريبة منه لضربات جوية مكثفة. وتضيف هذه المصادر أن حالة من الارتباك تسود الصفوف القيادية للدعم السريع، بين من يفكر في الهروب عبر الحدود أو الاحتماء بولاءات خارجية، ومن يسعى لعقد تسويات فردية تحفظ له حياته ومستقبله، ولو على حساب المشروع الذي خاض الحرب من أجله.

تتسرب روايات عن رسالة أخيرة بعث بها حميدتي قبل نحو اثنين وسبعين ساعة إلى إسرائيل ودولة إقليمية أخرى، عبّر فيها عن حجم التدهور الذي تعيشه قواته، وقال – وفق ما يُنقل عنه – ما معناه: نحن نخسر كل يوم، المقاتلون يتساقطون، القادة يهربون، الأرض نخسرها، لا نملك سلاحًا كافيًا لمواجهة القصف الجوي. مصر لا تريد استرداد الفاشر فقط، إن ما رأيته يعني إبادتنا وإنهاء وجود الدعم السريع. إذا لم تتحركوا لهدنة أو صفقة عاجلة تحفظ ما اكتسبناه، فأستطيع القول إننا خسرنا المعركة. خلال أسابيع قليلة ستكون دارفور بأكملها تحت قيادة البرهان وقواته، تحركوا وإلا أعلنت الاستسلام ونجوت بحياتي ومن تبقى معي.

سواء صحّت هذه الرسالة بنصّها أو حملت بعض المبالغة في السرد، فإن خلاصتها تعكس شعورًا واضحًا بفقدان زمام المبادرة لدى الدعم السريع، وتحوّل المعركة من محاولة السيطرة والتوسع إلى معركة بقاء ونجاة. لم يعد حميدتي قائدًا يلهث وراء مكاسب جديدة على الأرض، بل رجلًا يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مشروع يتهاوى تحت ضربات متتابعة، وإغلاق منافذ الدعم واحدًا تلو الآخر.

تزامن هذا التراجع مع ضغوط أمريكية متزايدة تُمارسها واشنطن على بعض الأطراف الإقليمية لوقف أي دعم يُقدّم لحميدتي وقواته. وتتحدث أوساط دبلوماسية عن رسائل أمريكية حازمة مفادها أن استمرار الدعم العسكري أو اللوجستي للدعم السريع سيُواجَه بردّ دولي قاسٍ، وأن الولايات المتحدة قد تقود ترتيبات لتحالف دولي أو عمليات جوية محدودة تُنهي القدرات العسكرية للدعم السريع إذا استمر في تهديد وحدة السودان واستقراره.

في المقابل، تشير المعطيات إلى أن البرهان بعث برسائل صريحة إلى حلفائه الإقليميين، وفي مقدمتهم مصر وتركيا والسعودية، يطلب منهم التركيز على هدف واحد: وقف أي دعم عسكري أو مالي يصل إلى قوات الدعم السريع عبر أطراف إقليمية أو دولية، مع تأكيده أن تجفيف هذه المنابع يمهّد لحسم المعركة ميدانيًا لصالح الجيش السوداني. وقد تعهد البرهان بأن استعادة الفاشر مسألة وقت قصير، وأنه سيكون مستعدًا فور تجفيف منابع الدعم الخارجي لإعادة فرض سيطرة الجيش على كامل دارفور، ومعاقبة كل من تسبّب في جرّ السودان إلى أتون هذه الحرب.

وتلوح في خلفية المشهد أدوار لدول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، التي تتحرك بثقلها السياسي والاقتصادي في اتجاه تثبيت معادلة جديدة في المنطقة، يكون فيها السودان مستقرًا وموحدًا. يُشار إلى أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يمسك بخيوط تواصل نشطة مع الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، ومع عواصم إقليمية أخرى، في محاولة لصياغة تفاهمات توقف نزيف السودان.

في قلب هذه المعادلة، تتحرك مصر بثقلها التاريخي والجغرافي والأمني، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن أمن السودان جزء لا يتجزأ من أمنها القومي. وتتحول هذه القناعة إلى دعم ملموس للجيش الوطني السوداني، وإلى مساهمة في تفكيك مراكز ثقل حميدتي وسيطرته. في الوقت نفسه، تقترب السعودية من ترتيبات صفقة توقف التدخل الإسرائيلي في الجنوب السوداني، وتضع حدًا لمسارات كانت تهدف إلى استغلال حالة الفراغ وضعف الدولة.

إذا تواصل هذا المسار، فإن النتيجة المتوقعة ستكون استعادة الجيش السوداني السيطرة على دارفور وكردفان، وانحسار الدعم السريع إلى جيوب محدودة أو تفككه إلى مجموعات أصغر تسعى لتسويات فردية أو مخرج آمن. عندها سيجد السودان نفسه أمام فرصة تاريخية لفتح صفحة جديدة، برعاية إقليمية ودولية، تعيد له معادلة الدولة الواحدة ذات الجيش الواحد، وتطوي صفحة التمرد المسلح والتقسيم المحتمل.

نجحت مصر في تثبيت نفسها كركن أساسي في معادلة دعم الدولة الوطنية، وأسهمت – مع السعودية وتركيا ودول أخرى – في تضييق الخناق على مشروع حميدتي، والاقتراب أكثر من أي وقت مضى من لحظة الحسم في الفاشر وعموم دارفور. أما السعودية، فتمضي بخطى محسوبة نحو إغلاق منافذ التدخل الإسرائيلي، وفتح الباب أمام عودة السودان إلى دائرة الاستقرار.

وبين تحرّكات الميدان وضغوط السياسة وكواليس العواصم، يبدو زلزال دارفور العسكري كبداية النهاية لمشروع الدعم السريع، وبوابة محتملة لعودة السودان إلى وحدته، بلا تمرد، وبلا تقسيم، وبأمل جديد في غدٍ تصمت فيه أصوات البنادق، ويعلو فيه صوت الوطن الواحد، الجيش الوطني الواحد، وشعب السودان الذي أنهكته الحروب لكنه استعاد حقه في الكرامة والأمن والحرية. غدٌ جديد يشرق على دارفور وكردفان، يحمل رسالة صمود وعزة لكل السودانيين: أن الوطن أقوى من التحديات وأعظم من كل الصراعات.

Loading

By عبد الرحمن شاهين

مدير الموقع الإلكتروني لجريدة الأوسط العالمية نيوز مقدم برنامج اِلإشارة خضراء على راديو عبش حياتك المنسق الإعلامي للتعليم الفني