مقال بقلم : د. أودي جمال
تحكي الأسطورة أن مشاجرةً وقعت بين الريح والشمس والمطر والنوم لمعرفة مَن منهم الأقوى، واتفق الأربعة على أن يكون مقياس “الأكثر قوة” من نصيب مَن ينجح في إجبار رجل صادفوه مارًّا أمامهم على التخلي عن رغيف خبز كان يحمله في يده.
أرادت الريح خطف الرغيف من الرجل باستخدام قوة عصفها، لكن الرجل أمسك به بقوة، وحاول المطر استهداف الرغيف عن طريق قطرات الماء، لكن الرجل أخفاه بين طيات ملابسه، ولم تنجح أشعة الشمس الحارقة في إجباره على التخلي عن رغيف الخبز، لكن عندما داعب النوم جفونه، أفلت منه الرغيف بسهولة ليتوج “النوم” “سلطانًا” تنحني أمامه هامات الجميع.
دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة “جلاسكو” ونشرتها دورية “ذا لانسيت سيكاتري”، تؤكد ما ذهبت إليه الأسطورة من أن “النوم سلطان”، وتكشف عن أن “الاضطرابات التي تُصيب ساعة الجسم البيولوجية من شأنها أن تَزيد خطر الإصابة بالاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب واضطرابات المزاج الأخرى”.
تشير الدراسة إلى أن “الساعة البيولوجية للجسم تعمل على تنظيم وقت النوم والتغيرات في مستوى الهرمونات ودرجة حرارة الجسم. تقع الساعة البيولوجية في النواة فوق التصالبية بالمخ، فوق نقطة التقاء العصبين البصريين في قاع الجمجمة، والتي تمثل مركز التحكم في الإيقاع اليومي للشخص، وتقوم على تنظيم الجداول الزمنية والتنسيق مع بقية الخلايا للوصول إلى ما يجب أن تكون عليه أنشطته على مدى اليوم”.
تقول “لورا ليال” -الباحثة بمعهد الصحة والرفاهية في جامعة جلاسكو، والمؤلفة الرئيسية للدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: وجدنا رابطة قوية بين تعطُّل الإيقاعات اليومية للشخص وإصابته بالاضطرابات المزاجية”.
تُعرّف “ليال” الإيقاعات اليومية بأنها “اختلافات في علم وظائف الأعضاء والسلوك الذي يتحكم في أنماط النوم لدى الإنسان، ودرجة حرارة الجسم، وأنظمة المناعة والهرمونات”، مضيفةً أن “هناك العديد من الدراسات السابقة التي حددت الارتباط بين تعطل إيقاع الساعة البيولوجية واضطرابات الصحة العقلية، لكن هذه الدراسات أُجريت على عينات صغيرة نسبيًّا، وذلك على النقيض من الدراسة الحالية التي تعاملت مع عينة ذات حجم كبير”.
وتضيف أن “أهمية الساعة البيولوجية للجسم تتعاظم؛ ليس فقط لتأثيرها الكبير على الصحة الجسدية، بل لأن هذا التأثير يمتد أيضًا للصحة النفسية، وهذه الأطروحة هي الأكبر من نوعها التي تعكف على دراسة العلاقة بين ارتباط خلل الساعة البيولوجية للجسم وحدوث الاضطرابات النفسية المزاجية، بالإضافة إلى زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب”.
وتستطرد: “ارتبط حدوث خلل في الساعة البيولوجية للجسم أيضًا بظهور حالة من انخفاض التقييم الذاتي للسعادة والرضا لدى عينة البحث”.
أجهزة تتبُّع
استخدم الباحثون بيانات “البيو بنك” في المملكة المتحدة (مصدر وطني ودولي يقدم معلومات للباحثين في مجال الصحة) لفحص الارتباطات بين اضطراب إيقاع الساعة البيولوجية والصحة النفسية والحالة المزاجية لـ91105 من الأشخاص تتراوح أعمارهم بين 37 و73 عامًا، وطُلِب من عينة البحث ارتداء أجهزة مراقبة على المعصم، مثل جهاز “فيت بت فلكس”، الذي يتتبع تفاصيل حامله اليومية بداية من السعرات الحرارية وحتى طبيعة النوم سواء كانت مستقرة أو متقطعة، لمدة 7 أيام؛ وذلك لتسجيل أنماط نشاط مرتديها على مدار اليوم.
تضيف “ليال” قائلة: ساعدتنا هذه البيانات على استنباط مقياس لـ”إيقاعات النشاط الحركي” أو ما يُعرَف بـ”السعة النسبية” للمشاركين؛ إذ قمنا بقياس التغيرات التي تحدث في مستويات النشاط في أثناء فترات الراحة والعمل. وربطنا بين هذه التغيرات والبيانات المتعلقة بالصحة العقلية ونمط الحياة وسمات الشخصية، ووجدنا أن السعة النسبية المنخفضة ترتبط بمخاطر الإصابة بالاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب. كما ارتبط انخفاض السعة النسبية أيضًا بظهور درجات أعلى من العُصابية، وزيادة الشعور بالوحدة والتقلبات المزاجية، فضلًا عن انخفاض الرضا عن الذات وعن الصحة وانخفاض الشعور بالسعادة، وأحيانًا رد الفعل البطيء في التعامل مع المواقف.
أهمية كبيرة
يرى “رامز رضا مصطفى” -أستاذ طب المخ والأعصاب المساعد، واستشاري طب النوم بجامعة عين شمس- في تصريحات لـ”للعلم” أن “اضطراب الساعة البيولوجية الذي يحدث بشكل مؤقت (مع السهر مثلًا) قد لا يؤدي إلى آثار تذكر، لكن اضطرابها على نحوٍ مستمر ومزمن قد يرتبط بالإصابة بكثير من الأمراض العضوية والنفسية، مثل السمنة وارتفاع ضغط الدم والسكري ومرض ألزهايمر وحتى الخَرَف”.
ويُرجع “مصطفى” أهمية الدراسة إلى أنها “الأولى التي يتم فيها إثبات وجود علاقة بين خلل الساعة البيولوجية وحدوث الأمراض النفسية، فضلًا عن تعامل الباحثين مع عينة كبيرة الحجم وقدر كبير من البيانات الدقيقة، ما ساعدهم على تحديد إيقاع الساعة البيولوجية”، على حد وصفه.
بدوره، يقول “طارق أسعد” -أستاذ الأمراض النفسية والعصبية، ومدير وحدة القياسات الفسيولوجية ومعمل النوم بمركز الطب النفسي بجامعة عين شمس- لـ”للعلم”: “إن الدراسة تكشف أن تنظيم إيقاع الساعة البيولوجية فيما يخص عادات النوم قد يكون أحد المداخل المهمة لعلاج أمراض نفسية كالاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب؛ لأن إفراز الناقلات العصبية المسؤولة عن السعادة مثل الدوبامين والسيروتونين يرتبط بشكل وثيق بالساعة البيولوجية، وقد يكون من الصعب تغيير طبيعة الأشخاص الموجودة في الجينات. إذ هناك هرمونان رئيسيان يتحكمان في عملية النوم والاستيقاظ هما هرمون الميلاتونين (هرمون النوم الذي ينشط متأخرًا لدى الأشخاص الليليين) وهورمون الكورتيزول (هرمون الاستيقاظ الذي ينشط مبكرًا لدى الأشخاص النهاريين)، ويحدد وقت إفرازهما ما إذا كان الفرد ليليًّا أم نهاريًّا، لكن من الممكن إدارة إيقاع الساعة البيولوجية بشكل سليم”.
النوم المنظف الأفضل للمخ
تتفق النتائج السابقة مع نتائج دراسة أسترالية أُجريت على 189 شخصًا، وانتهت إلى أن “الأفراد الذين ينامون نومًا متقطعًا ولا تتسم دورة النوم لديهم بالاستقرار، يكونون أكثر عرضةً لظهور أعراض الإصابة بمرض ألزهايمر في مرحلة مبكرة من عمرهم”.
واستهدف الباحثون دراسة العلاقة بين النوم السيئ وتراكُم لويحات أميلويد، التي يُعَدُّ تراكمها أحد المؤشرات على ظهور مرض ألزهايمر والخرف؛ إذ تتراكم بكميات كبيرة في المخ وتدمر الخلايا العصبية بشكل تدريجي وتقطع اتصالاتها بنظيراتها المجاورة، وتكون أعداد هذه اللويحات أكبر في الحالات الحادة للإصابة بـ”ألزهايمر”؛ ففي حال لم يتم تخلص الدماغ من الأميلويد بيتا، فإنه يتراكم في شكل لويحات تدمّر نقاط الاشتباك العصبي التي تصل بين الخلايا العصبية، مما يؤدي إلى تدهور في القدرات المعرفية للمريض وفقدانه الذاكرة.
كما حذرت دراسة إيطالية- أمريكية مشتركة من أن الدماغ البشري يتعرض للتآكل عندما لا يحصل الإنسان على قسطٍ كافٍ من النوم في أثناء الليل، مشيرةً إلى أن “الحرمان من النوم يؤدي إلى نشاط غير معتاد في الخلايا النجمية التي تقوم بتنظيف الدماغ عن طريق إزالة نواتج التآكل العصبي خلال اليوم، وذلك في أثناء عملية النوم. ولكن عند حدوث نقص في معدلات النوم، تعمل تلك الخلايا على أكل نقاط الاشتباك العصبي، أي أن الدماغ يبدأ في إيذاء نفسه بدلًا من تنظيف نفسه”.
في الختام، تؤكد “ليال” ضرورة إجراء مزيد من الأبحاث لبيان علاقة “السببية” التي تربط بين اضطراب الساعة البيولوجية والإصابة بتلك الأمراض النفسية بيانًا أوضح، مشيرةً إلى “أن ذلك سيعمل على التنبؤ باحتمالات إصابة الشخص بنوبات الاكتئاب أو الهوس في فترة مبكرة، ما يوفر فرصةً جيدةً للتدخلات الطبية والنفسية المبكرة”.