في ١٢ ديسمبر عام ١٩٥٧ أرسلت سيدة فقيرة من قرية السنطة بمحافظة الغربية رسالة «شكوى» إلى ضريح الإمام الشافعي بالقاهرة تطلب فيها متوسلة بالإمام الشافعي «كولي متوفي من أولياء الله الصالحين» بأن يتوسط لها إلى الله أن ينتقم لها ما يسُر خاطرها بصورة عاجلة من شخصين الأول سرق منها «دكر بط» والثاني استولى على «شجرتين تين شوكي»- وفقا لنص الرسالة رقم (٦) المنشورة عام ١٩٦٥ في كتاب عالم الاجتماع المهم سيد عويس بعنوان «من ملامح المجتمع المصري المعاصر: ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي»، يُحسب لسيد عويس أنه التفت مبكرا لهذه الظاهرة التي تستمد جذورها من الماضي السحيق في العصر الفرعوني، وسعى إلى دراستها بصورة موضوعية وبحذر شديد دون الخوض في تفسيرها مكتفيا بتحليل مضمون تلك الرسائل.

الرسالة التي اخترتها تنتمي إلى أغلب الشكاوى المتعلقة بالاعتداء على الأموال والممتلكات في ظل الفقر الشديد، ورغم قِدم الشكوى ومرور ٦٦ سنة على تدوينها، ورغم ما قد يبدو على مضمونها من بساطة للوهلة الأولى فإن تحليلها بعمق ينطوي على عدة دلالات تستوقف النظر ماتزال حاضرة بقوة في واقعنا الاجتماعي المعاصر أوضحها فيما يلي:

أولا: تعبر الشكوى عن العلاقة الوثيقة بين الحياة والموت في رؤى العالم لدى المصريين، والصلة المستمرة بين عالم الأحياء وعالم الأموات بحسب المعتقدات والممارسات الشعبية السائدة لدى كثير من الفئات في المجتمع المصري.

ثانيا: قوة الاعتقاد البطولي في الأولياء وارتباطه بشدة الفقر والتهميش، وهذا واضح من طبيعة المسروقات (دكر بط، وشجرتين تين شوكي)، تلك التي تمثل أساس حياة الفقراء المعدمين.

ثالثا: للمرأة حضور بارز في المعتقدات الشعبية وبالأخص النساء الفقيرات، اللائي يتشبثن بالاعتقاد في الأولياء سواء الأحياء أو الأموات كملاذ يُعينهم على تحديات البقاء ومواجهة مخاطر الحياة في ظل ندرة الإمكانيات المادية.

رابعا: إذا كان النسب الأبوي (أي انتساب الشخص لأبيه) يحدد مكانة الشخص في عالم الحياة فإن الانتساب للأم هو أساس الحساب والمصير في عالم الغيب، هكذا تقول المعتقدات الشعبية وهذا واضح من طلب المرأة الريفية في التعبير عن شكواها: «أن ينتقم الله من فلان ابن فلانة».

خامسا: عمق مفهوم «الوساطة» في رؤي العالم لدى المصريين والذي يستمد جذوره من معتقدات شعبية في التوسط بالبشر الأولياء (كأصحاب سلطة أدني في الحياة الدنيا) لدى الله (صاحب السلطة الأعلى في الدنيا والآخرة)، على اعتبار أن سلطة تعمل بتفويض من سلطة أعلى ولا سبيل لدى المستضعفين في الحياة سوى اللجوء إلى التوسل بالسلطة الأدنى في مخاطبة السلطة الأعلى. وهذا الاعتقاد راسخ في حياة كثير من المصريين ويوضح مدي شعور الشخص بالهشاشة والتضاؤل أمام كل سلطة سواء كانت دنيوية أو دينية.

سادسا: اللجوء للأولياء كوسطاء أمر شائع في المعتقدات الشعبية المصرية ويتوقف ذلك على مدي الاعتقاد في (كراماتهم) من واقع اختصاصاتهم فيما يقدموه من معجزات، بعضهم له كرامات في الشفاء من الأمراض، والبعض الآخر فعال في حل المشكلات الأسرية، أو مشكلات الإنجاب، والسرقات، والاعتداء على الممتلكات.. إلخ.

ولعل السبب في اللجوء إلى الشافعي بالتحديد لكونه الأهم في نظر كثير من مريديه والمؤمنين به حيث كان (قاضي للقضاة) وفقيها في علوم الدين وصاحب مذهب باسمه.

وهذا يفسر لجوء بعض الرسائل إلى طلب عقد (محكمة باطنية) أو ما يطلق عليه (الديوان) بحسب المصطلحات الصوفية، والذي يضُم أقطاب التصوف من كبار أولياء الله الصالحين ” لتصريف أقدار الوجود” أي كل ما يتعلق بشئون الحياة والوجود الإنساني بتفويض إلهي – حسب ما تشير إلى ذلك المعتقدات الشعبية.

سابعا: الشكوى مكتوبة بالفصحي مما يؤكد أن المرأة الشاكية لم تكتب شكواها خاصة في ظل ارتفاع معدلات الأمية وبالأخص أمية الإناث في الريف خلال حقبة الخمسينيات من القرن العشرين، والأرجح أن كاتب الشكوى شخص آخر يُجيد القراءة والكتابة بطلب من المرأة الشاكية، واستخدم في نص الشكوى خطابا يتسق مع المعتقدات الدينية السائدة.

ثامنا: نص الشكوى يتفادى الاتهام بالوثنية والشرك بالله السائد لدى الخطاب السلفي ضد التدين الشعبي، ولهذا لا تٌعبر الشكوى عن إنكار وحدانية الله، والدليل على ذلك إيمان المرأة الشاكية بالتوحيد وفقا للعبارة التي تقولها في رسالتها للإمام الشافعي: «أتوسل بك إلى ربك سبحانه وتعالى أن ينتقم»، ولم تقل «أتوسل اليك أن تنتقم».

تاسعا: الشكوى نموذج مصغر لكثير من الشكاوى المماثلة التي يُعاني منها الفقراء وتعبر عن حُرقة الشعور بالظلم والبحث عن عدالة السماء بعد فقدان الأمل في عدالة الأرض، ولهذا كُتبت الشكوى وأُرسلت بالبريد إلى ضريح الإمام الشافعي، وهي ظاهرة كاشفة عن مدي حدة المظالم الاجتماعية، وتفاقم مظاهر الخلل في ميزان العدالة الاجتماعية في المجتمع، وهشاشة منظومة الضبط الاجتماعي سواء الرسمي ممثلا في (القانون) أو الضبط غير الرسمي ممثلا في (العرف) عند فض المنازعات من خلال المجالس العرفية. وقد سبق لتوفيق الحكيم أن أبدع في «يوميات نائب في الأرياف» عام ١٩٣٧ عند وصف كثير من المواقف العبثية خلال محاولة تطبيق القانون الرسمي الحديث على واقع لا يتسق ولا يعترف به داخل الريف المصري الذي يئن من الفقر والمرض والجهل.

عاشرا: من المثير للدهشة، فيما يتعلق بالشكوى التي أرسلتها المرأة الريفية الفقيرة إلى الإمام الشافعي أن حضور الدولة الهش في تحقيق العدل لم يتجاوز حدود الوسيط (ساعي البريد) بين المواطن المظلوم وهو على قيد الحياة (الشاكي) من ناحية، والقاضي العادل (الولي) وهو الميت الذي يحكم بالعدل ويرد المظالم ويعيد الحقوق لأصحابها الأحياء. هذا الواقع كان سائدا في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين وربما ما زال قائما -بصورة أو بأخرى – حتى اليوم.

لقد حدثت تغيرات اجتماعية وثقافية واقتصادية كثيرة في المجتمع المصري منذ خمسينيات القرن العشرين، ومع ذلك ماتزال مظاهر الاعتقاد في الأولياء قائمة حتى اليوم، ومن ناحية أخرى بذلت الحركات الدينية الإسلامية جهدًا كبيرًا على مدى ما يقرب من نصف قرن في مقاومة التدين الشعبي وتحطيم أضرحة الأولياء ومجابهة الموالد ونشر نمط من التدين الموحد والسيطرة على منظومة الضبط من خلال ما يسمي بـ (القضاء الشرعي)، ومع ذلك ماتزال بقايا التدين الشعبي ومظاهره في إرسال الرسائل للأولياء قائمة حتى اليوم. وهذا يوضح مدى قوة التراث الشعبي في حياة البسطاء وقدرته على تلبية احتياجاتهم في ظل عجز كل أدوات الحداثة عن نزع الإيمان بالخرافة وترسيخ العقلانية وتحقيق العدل الاجتماعي.

Loading

By عبد الرحمن شاهين

مدير الموقع الإلكتروني لجريدة الأوسط العالمية نيوز مقدم برنامج اِلإشارة خضراء على راديو عبش حياتك المنسق الإعلامي للتعليم الفني