لم يكن المشهد السوري يومًا بسيطًا أو موحدًا، فمنذ عقود، تعيش سوريا على إيقاع صراعات مذهبية متجذرة، تتوارى أحيانًا خلف شعارات وطنية، لكنها لا تلبث أن تعود للسطح في لحظات الاحتدام، بلد متعدد الطوائف والمذاهب، يتصدرهم السنة والعلويون، تحكمه أقلية مذهبية منذ أكثر من نصف قرن، وسط تساؤلات لا تهدأ: ما الفارق بين أن يُحكم الناس باسم الشرع أو من دونه؟ وهل يحمل “الحل في الشرع” خلاصًا حقيقيًا أم وجهًا آخر للأزمة؟.

صراع ممتد بين العلويين والسنة في سوريا

تشكل الطائفة السنية الأغلبية السكانية في سوريا، بينما لا تتجاوز نسبة العلويين 12%، ورغم ذلك أمسكوا بزمام السلطة منذ عام 1970، حين وصل حافظ الأسد إلى الحكم، ورغم خلفيته العلوية، حاول الأسد الأب إظهار نفسه كزعيم وطني يتجاوز الطائفية، فشارك في الصلاة بالمساجد، ورفع من شأن المؤسسات الدينية السنية، وعيّن شخصيات سنية بارزة في الحكومة والجيش، إلا أن هذه السياسات لم تنجح في تهدئة التوترات الكامنة، خاصة مع رفض عدد من علماء السنة الاعتراف بشرعية حكم العلويين.

 

وتحول التوتر إلى صراع مفتوح حين ألغى الأسد عام 1973 بندًا في الدستور يشترط أن يكون رئيس الدولة مسلمًا، ما فُسّر على نطاق واسع كإهانة للهوية الدينية للدولة، تصاعدت المواجهة مع الإخوان المسلمين، الذين اتهموا النظام بإقصاء الإسلام، ونفذوا عمليات عسكرية أبرزها مجزرة مدرسة المدفعية في حلب عام 1979، وردّ النظام بقوة ساحقة، culminated in the مجزرة حماة 1982، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف، وسُحق فيها التمرد السني، وتم ترسيخ قبضة الحكم العلوي عبر أجهزة أمنية معقدة، هيمنت عليها شخصيات من الطائفة ذاتها.

الطائفية كأداة حكم

لم يكن حكم الأسد مجرد مشروع سلطوي، بل منظومة متكاملة تقوم على مركزية الطائفة، وتوسيع نفوذها داخل مفاصل الدولة، لا سيما الجيش والمخابرات، ومع تصاعد التحديات الإقليمية والداخلية، خصوصًا بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، أعاد بشار الأسد إنتاج النهج ذاته، ولكن بوتيرة أعنف، تحولت الاحتجاجات السلمية سريعًا إلى صراع مسلح، روج النظام خلاله لخطاب طائفي يصور المعارضة كتهديد “إرهابي سني”، واستعان بميليشيات شيعية مدعومة من إيران، في مقابل تهميش، بل وتهجير، للمناطق السنية.

 

وشهدت سوريا في هذه المرحلة تفككًا خطيرًا في بنيتها الاجتماعية، وانهيارًا للمؤسسات العامة، واستخدم النظام الدين كسلاح: قمع رجال الدين المستقلين، أعاد صياغة المناهج الدينية، ووظّف المؤسسات الشرعية لخدمة روايته، في ظل هذه السياسات، تعمقت الفجوة بين مكونات المجتمع، وأصبحت المصالحة الوطنية حلمًا مؤجلًا.

ومع تصاعد الحرب، تفككت بنية الدولة السورية، وانهارت الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه، وامتلأت السجون، وامتلأت المقابر، وفي المقابل، تمددت القوى الأجنبية داخل سوريا، فباتت الأرض مسرحًا لصراع نفوذ بين إسرائيل وتركيا وإيران وروسيا وأمريكا، حتى لم تعد الدولة السورية قادرة على احتكار قرارها السيادي، وأصبح وجود النظام في دمشق مرهونًا بتوازنات خارجية معقدة.

 

الشرع يدخل دمشق.. هل يكون البديل؟

وسط هذا الانهيار، دخل “الشرع” – القائد السابق لهيئة تحرير الشام – إلى دمشق، بعد سيطرته على مناطق واسعة من الشمال السوري، ونجاحه في اختراق جبهات النظام في حمص وإدلب وحماة، وفي مشهد غير متوقع، تحوّل الرجل من زعيم فصيل مسلح إلى قائد للمرحلة الانتقالية، رافعًا شعارات “البناء والتطوير”، ومحاولًا ملء الفراغ السياسي بمرجعية شرعية جديدة.

وأعلن الشرع عن خطوات جذرية: حل مجلس الشعب، إلغاء دستور 2012، تفكيك الأجهزة الأمنية والجيش النظامي، دمج الفصائل المسلحة تحت مظلة واحدة، وحل حزب البعث، في محاولة لتأسيس دولة “مدنية بمرجعية إسلامية” كما وصفها، كما دعا إلى مؤتمر وطني جامع، وإصدار إعلان دستوري مؤقت، مع وعد بمحاكمة رموز النظام السابق.

 

تحديات المرحلة الانتقالية

رغم هذه الخطوات، لم تكن مهمة الشرع سهلة. فقد واجه رفضًا ضمنيًا من الأقليات، وقلقًا عامًا من العودة إلى الهيمنة السنية، واتهامات من أنصاره السابقين بالتنازل عن “أهداف الثورة”، ووسط هذا، حاول الشرع تقديم صورة أكثر اعتدالًا، فالتقى بممثلي الأوقاف، وأكد على خطاب ديني وسطي، وسعى لتقليص الطابع الطائفي الذي رسّخه الأسد.

لكن الخسائر الميدانية – مثل فقدان أراضٍ لصالح التوغل الإسرائيلي – فتحت عليه باب الانتقادات، خصوصًا حين برر التراجع بعدم جرّ سوريا إلى حرب شاملة في وقت تعاني فيه البلاد من أزمات اقتصادية خانقة، دفعت العديد من المحافظات للاستنجاد بتركيا وقطر للحصول على الوقود والغذاء.

 

هل تجمع السياسة والدين؟

بعد أكثر من خمسين عامًا من الحكم العلوي، وسنوات من الثورة والحرب والتدخلات الأجنبية، تقف سوريا اليوم أمام سؤال حقيقي: هل يمكن لحكم ديني، حتى وإن جاء باسم الشرع، أن ينجح حيث فشلت الأنظمة السابقة؟ الشرع يبدو واعيًا لهذا التحدي، لكنه – كباقي من سبقه – بدأ في الانزلاق نحو “السياسة”، على حساب “المبدأ”.

تجربة سوريا تطرح معضلة أكبر من تغيير الحاكم أو النظام؛ إنها أزمة مشروع دولة. فهل يكون الحل في الدين أم في بناء عقد اجتماعي جديد تتساوى فيه المذاهب والطوائف؟ وهل يكفي رفع شعار “الشرع” لتحقيق العدل، أم أن العدالة تحتاج ما هو أعمق من النصوص.. تحتاج إرادة سياسية، وعقلانية، وشجاعة في الاعتراف بالتعدد، واحترام الإنسان قبل أي انتماء؟.

Loading

By عبد الرحمن شاهين

مدير الموقع الإلكتروني لجريدة الأوسط العالمية نيوز مقدم برنامج اِلإشارة خضراء على راديو عبش حياتك المنسق الإعلامي للتعليم الفني