“الغربة مع النفس”


بقلم: د. احمد يوسف الحلواني باحث في الشريعة الاسلامية


مهما إختبئنا وراء المبادئ الأخلاقية والأوامر الدينية والدعاوى الضميرية ، ففي نهاية المطاف لابد أن يأتي يوم ، ولابد أن تحين ساعة تُبلى فيها السرائر أي تُختبَر وتُكشَف ويفتضح امرها ويسقط زيفها، ودفاعاتها .
يومها وفي ذلك اليوم الاخروى كل نفس سوف تجعل منها مُحاميا مدافعا عن نفسها ، لتبرر مسالكها وأفعالها التي خالفت المبادئ الأخلاقية والأوامر الدينية التي كانت ترددها في الدنيا.
لأنه من فرط الكذب والتدليس والتمثيل سوف يقتنع ذلك المجادل عن نفسه أنه على حق ويقع ضحية لنفسه قال تعالى عن المُنافِقين الذين يُبعَثون يوم القيامة {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} ثم يقول سبحانه وتعالى {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ } يحسبون أنهم على صدق وعلى حق وعلى برهان وذلك لأنهم من فرط الكذب والتدليس ومن فرط ما عانوا من التمثيل المُستمِر في حياتهم إغتربوا حتى عن أنفسهم .
تلك الغربة عن النفس لابد أن تجعلهم وتشعرهم بعدم الإنسجام ، وبعدم التكامل ، لذلك كانت أسوأ الأمراض وأخطرها هى مُخالَفة الظواهر للبواطن والذى يعرف بلغة الشرع بالنفاق قال تعالى في كتابه العزيز { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، فهم أسوأ وأتعس من حال ومصير الكفّار المُلحِدين الجاحدين والعياذ بالله ، لأن رقعة فسادهم أكبر بكثير وجريمتهم أكبر فى حق انفسهم وفى حق مجتمعاتهم ،ولذلك هم فِي الدَّرْكِ {الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ يستوى ذلك فى غربة النفس وآلامها النفاق العقدي والنفاق العملي والذى هو إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر ، هذه هي الخصال الأربع السيئة التي إن إجتمعت في عبد والعياذ بالله تم وخلص نفاقه كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما، كان مُنافِقاً تاماً، كان مُنافِقاً خالصاً لأنه خالَف ظاهره باطنه ، فهو يُحدِّثك ويُظهِر أنه صادق وأنه يصدقك ، ويعلم في باطنه أنه يكذب عليك، خالف ظاهره باطنه، إذا وعد أخلف، يعد وفي نيته أنه لا يُريد أن يُوفي بعدته، فهو مُنافِق ، ولانقصد بالطبع الذى وعد ثم حالت بينه وبين وعده ظروف قهرية أوعوامل خارجية لا يداً له فيها ولا يدين بينه وبين إنفاذ ما وعد لا شيئ عليه فذلك بالإجماع ليس مُنافِقاً ، ولا يُقال إنه وعد فأخلف، إنما وعد فأخلفته الظروف، الظروف قهرته واضطرته إلى هذا، ومن ثم لا شيئ عليه، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } .
الله سمى نفاق هذا المُنافِق مرضاً ، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} لأنه مُغترِب عن نفسه، وأعماله الصالحة بعيدة عنه تماماً، لا تُخصِبه، لا تُثريه ولا تُغنيه، ولا تُعطيه سكينةً ولا هدوءً ولا تماميةً ولا راحةً ولا استكمالية، وإنما تُعطيه مزيداً من الشعور بالثقل والعبء .
ولن تجده ابدا إنساناً مُتكامِلاً ومُتوائماً ومُنسجِماً ومُتصالِحاً ذاتياً، مثلما نجد ذلك في الشخص المؤمن الذى يستوي سره مع علانيته وعلانيته مع سره، هذا الذي يقوم بالأعمال وينبعث فيها وإليها عن محبة، وتلذذ، وتنعم، يتنعَّم حتى بالمشقة في سبيل الله وفي سبيل الخير، وفى سبيل امته ومُجتمَعه، و هو سعيد وراضٍ، يُتعِب البدن وترتاح النفس ويرتاح الروح، أما الآخرون الذين تغترب انفسهم وتختلف ظواهرهم عن باطنهم فلااااا.

"الغربة مع النفس"

“الغربة مع النفس”

Loading