بقلم د / قمرات السيد محمود
دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر
خاضت مصر عبر التاريخ حروب ومعارك دامية لأجل الدفاع عن الوطن وحماية مقدساته ورفعة أراضيه، وذلك بسواعد أبنائها البواسل الذين يرون أن تأدية الخدمة العسكرية والانتساب إلى القوات المسلحة المصرية شرف لا يضاهيه شرف آخر، الأمر الذي غاب عن أذهان المصريين عند بداية تجنيدهم في مطلع القرن التاسع عشر، فلا شك أنه حينما أقدم محمد علي باشا على تجنيد المصريين داخل الجيش فإن هذا الأمر قوبل بتأفف شديد من جانب المصريين، لاسيما وأن صلتهم بالجيش كانت قد أنقطعت منذ عهود طويلة، أمتدت من دولة المماليك البحرية والجركسية والتي حكمت مصر مائتان وأربعة وسبعون عاماً وثمانية شهور، وحتى السيطرة العثمانية على مصر في عام 1517م، حيث رفض العثمانيون إدراج المصريون في سلك الجندية، ونظروا إليهم نظرة دونية لا تتعدى كونهم مزارعون لا يرتقون إلى مرتبة الجندية، وحتى لا يكونوا سبباً في طردهم من البلاد.
وعلى العكس من ذلك ففي عهد الباشا وقع عبء التجنيد كاملاً على كاهل طبقة الفلاحين الفقيرة، حيث كانت أكثر طبقات المجتمع المصري تضرراً من هذا الأمر، لاسيما وانه كان لدى كل من الطبقتين المتوسطة والثرية من الأموال والحيل ما جعلتهم يعفون أبنائهم من عبء الجندية.
على كل ففي بادئ الأمر حاول محمد علي باشا إقناع الفلاحين المصريين وإستمالتهم إلى ترك أراضيهم والإلتحاق بالجيش بكامل رغبتهم، وكان قد قدم لهم في سبيل ذلك بعض المغريات مثل إلغاء ضريبة الرأس، وحينما فشل الباشا في إغرائهم أضطر إلى إتباع سياسة التجنيد الإجباري، وذلك من خلال شن حملات عسكرية تهبط إلى القرى، وتقبض على كل من فيها من الرجال، حيث يتم تقييدهم، ويساقون جبراً إلى معسكرات التدريب، التي أنشأها الوالي في قرية بني عدي ومعسكرات أخرى في أسوان.
ورداً على ذلك فلم يستسلم الفلاحون المصريون إلى التجنيد الإجباري، ولجأوا إلى مقاومته بعدة طرق كان من بينها الثورة على الوالي، والهجرة الكاملة من قراهم إلى قرى أخرى جديدة، وحينما باءت محاولاتهم بالفشل لجأوا إلى ما هو أقسى وأشد صعوبة من ذلك وهو تشويه أنفسهم بإحداث إصابات وعاهات مستديمة بأجسادهم، حتى يصبحوا غير لائقين لأداء الخدمة العسكرية, فمنهم من يقطع سبابته، ومنهم من يفقأ عينه اليمنى.
ولمنع إنتشار مثل هذه الجرائم كان الباشا يأخذ من نفس العائلة شخصاً أخر غير الذي شوه نفسه، أو يرسل المشوهين للعمل في سجن الحكومة مدى الحياة، ولتغليظ العقوبة على أمثال هؤلاء، أصدر الباشا أوامره إلى مديري المديريات بأن يتفقدوا الأفراد أصحاب العاهات للتأكد من مدى قدم عاهاتهم من حداثتها، فإذا ما ثبٌت حداثتها وجَبَ عليهم محاكمة هؤلاء ومجازاتهم بأقصى أنواع العقوبات، وإزاء استمرار الوضع وتحوله إلى ظاهرة عامة أمر الباشا بإنشاء فرقة من المشوهين وإستخدامها في أغراض أخرى ليست حربية.
ولعل من وسائل التشويه الأخرى التي لجأ اليها الفلاحون وكانت أكثر خطورة من سابقتها تمثلت في إصابة أنفسهم بالعمى من خلال وضع سم الفئران في أعينهم، وحينما علم محمد علي باشا بهذا الأمر كتب على الفور إلى مديري المديريات أمراً يقضي بمنع العطارين من بيع سم الفئران بشكل قاطع، أما بالنسبة لهؤلاء الأشخاص الذين ثبت بالفعل استخدامهم للسم فكان يحكم عليهم بالسجن مدى الحياة.
وبالرغم من هذا كله فإن كثيراً من الفلاحين لم يفقدوا الأمل في الهروب من التجنيد حتى بعد أخذهم على يد فصائل التجنيد، فكانوا يحاولون الفرار أما في الطريق إلى معسكرات التدريب أو من معسكرات التدريب نفسها، والسبب في ذلك هو أن هؤلاء الفلاحون كانوا لا يحتملون حياة الجيش مطلقاً، خاصة في الأسابيع الأولى من التجنيد بعد أن يتم إبعادهم من قراهم تاركين خلفهم ذكريات الأرض والوطن والعائلة، بينما قوانين الجيش الإنضباطية لم تكن قد ضربت بجذورها بعد في عقولهم.

Loading

By hanaa

رئيس مجلس إدارة جريدة الاوسط العالمية نيوز