بقلم الأديب المصرى
د. طارق رضوان جمعه
يكفي في بيان محبة الله تعالى للمؤمنين قول الله تعالى في الحديث القدسي (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)؛ رواه البخاري. فقد يكون الأذى المعنوي أشد وطأة على النفس، وأبقى أثرا في الناس.
والمخالطون للمرء، والقريبون منه؛ أذيتهم أشد حرمة من أذية غيرهم؛ لحرمة قربهم، وعظمة حقهم؛ ولتوقع تكرار وقوع الأذى عليهم؛ فأذية الوالدين عقوق، وأذية القرابة قطيعة، وأذية الزوج لزوجته سوء عشرة، وأذية الزوجة لزوجها نشوز، وأذية الوالد لولده سوء تربية، وأذية الجار سوء جوار، تذهب أجر كثير من العبادات وتمحو أثرها، ومقتصد محسن لجيرانه، خير من قانت يسيء جوارهم. وخطب النبي صلى الله عليه وسلم على الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فقال: ((يا مَعْشَرَ من قد أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ ولم يُفْضِ الْإِيمَانُ إلى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ…)) رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
ومن أشهر قصائد الحكم القصيدة الزينبية التي يُرجح أن قائلها هو صالح بن عبدالقدوس )سُميت الزينبية لأنه يقول في مطلعها صرمت حبالك بعد وصلك زينبُ) يقول من ضمنها :
لا خير في ودِّ امرءٍ متملقٍٍ
حلو اللسان وقلبه يتلهّبُ
يلقاكَ يحلفُ أنَّهُ بك واثقٌ
وإِذا توارى عنك فهو العَقْرَبُ
يُعطيك من طرف اللسان حلاوة ً
وَيَرُوغُ مِنْكَ كما يَروغُ الثَّعْلَبُ
والفَقْرُ شَيْنٌ للرِّجالِ فإِنَّهُ
يُزرى به الشهمُ الأديب الأنسبُ
وَاحْرَصْ على حِفْظِ القُلُوْبِ مِنَ الأَذَى
فرجوعها بعد التنافر يصعبُ
إِنّ القُلوبَ إذا تنافر ودُّها
شِبْهُ الزُجَاجَة ِ كسْرُها لا يُشْعَبُ
و إذا أصابك في زمانك شدة ٌ
و أصابك الخطب الكريه الأصعبُ
فَادْعُ لِرَبِّكَ إِنَّهُ أَدْنَى لِمَنْ
يدعوه من حبل الوريد وأقربُ
واحْذَرْ مِنَ المَظْلُومِ سَهْما صائبا ً
و اعلم بأن دعاءهُ لا يُحجبُ
وأعجب من ذلك أن يكون منع الأذى عن المسلمين، أو رفعه بعد وقوعه من الأولويات التي تقدم على غيرها كما في حديث أَبِي بَرْزَةَ رضي الله عنه قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله عَلِّمْنِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ فَقَالَ: انْظُرْ مَا يُؤْذِي النَّاسَ فَاعْزِلْهُ عَنْ طَرِيقِهِمْ) رواه أحمد. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ في مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عن الطَّرِيقِ وَوَجَدْتُ في مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ في الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ)) رواه مسلم.
وقديماً، أمر الخليفة عبدالملك بن مروان أن يتم البحث عن كُثيّر عزّة والإتيان به إليه و لو من باطن الأرض كى يسمع ما يقول ، و نجح الحراس و الخدم في العثور عليه ، و بينما كان عبد الملك بن مروان جالسا ، فإذا بخادمه يدخل عليه ديوان القصر يستأذنه في دخول كُــثَــيّــر عزة عليه ، فأذن له بالدخول واستعد هو وجلسائه لرؤيته وسماع ما عنده ، فلمــا دخل حدقوا جميعا إليه واستغربوه ، فقد وقف أمامهم رجل تزدريه العين ، حقير المنظر ، صغير البنية ، قصير القامة ، دميم الوجه ، ذو ملابس رثة ، فتعجبوا و لسان حال كل واحد منهم يقول : هل هذا هو كُثَيَّـر عـزَّة ، الشاعر الذي ملئ صيته الآفاق ؟؟!! فكسر كُثــيّــر حاجز الصمت و قال : السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ، طاب مساءك يا أمير المؤمنين ، فما كان من عبد الملك بن مروان إلا أن رد فقال : تسمع بالمُعيدي خيرٌ من أن تراه !! و هو ما صار مثلا عند العرب بعد ذلك ، فقال كُثَيَّـر : مهلاً يا أمير المؤمنين ، فإنما الرجل بأصغريه ، قلبهِ ولسانه ، فإن نطق نطق ببيان ، و إن قاتل قاتل بجنان ، فأنا الذي أقول:
ترى الرجلَ النحيفَ فتزدريه
و في أثوابه أسدٌ هصورُ
و يعجبكَ الطريرُ فتبتليه
فيُخلفُ ظنك الرجل الطريرُ (الطرير: ذو المنظر والهيئة الحسنة).
لقد عَظُمَ البَعيرُ بغيرِ لُبٍّ
فلم يستغنِ بالعِظَمِ البعيرُ
ضِعافُ الأسدِ أكثرها زئيراً
وأصرمها اللواتي لا تزيرُ
فاستشعر الخليفة عبد الملك بن مروان الحرج و تسرعه فيما قال ، فاعتذر من كُثــير عزة و قربه إليه و رفع مجلسه.
إن ظاهرة العنف والسلوك العدواني هي إحدى الظواهر الإنسانية التي تصدر عن النفس الإنسانية في لحظة جنونية غير مسيطر عليها، ففي مسرى الحياة وتحت وطأة الظروف وضنك المعيشة وكثرة الإحباطات والإستثارات، نجد أن ظاهرة العدوان باتت متفشية في السلوك الفردي، والسلوك الجمعي للشعوب.بينما الدين الإسلامي ما زال ينهج نفس النهج الداعي إلى التعايش بسلام وأمان بين جميع الشعوب والأقوام والسلالات البشرية.
وأخيراً فالنفس الإنسانية كما وصفها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، هي المحرك الأول والأساس في نشأة السلوك العدواني. فإكراه الإنسان لنفسه يعد عملاً شاقاً، والانتصار عليها هو الأصعب، لا بسبب نزوعها إلى الشر دائماً، ولكن للغواية أثر قوي على الإنسان، وهي تنحدر به إلى أحضان اللذّة، واللذة تثير المتعة، وعادة تكون سهلة المنال.
يرى الإمام الشيرازي أن من أسباب نشوء بعض السلوكيات الخاطئة المؤدية إلى الإنفعالات والتي منشؤها الغضب ؛ أن يرى الإنسان كل خير وفضيلة في نفسه وجماعته، ويرى الآخرين مجردين عن الفضيلة، بل ويراهم منغمسين في الرذيلة، فهذا لا بد أن ينتهي إلى العداوة والبغضاء .ومن ذلك مثلاً تلف بعض خلايا المخ لسبب أو لآخر، ؛ فقد وجد أن 70% ممن يعانون صدمات أصابت منهم الدماغ، يستجيبون بعنف وبعدوانية لأتفه المثيرات ولأسخف الأسباب. لذا فإن أي عطب يصيب الدماغ يمكن أن يؤثر في وظائف الفصوص الأمامية أو الصدغية من الدماغ، وهي المناطق التي تتحكم بالمنطق، وبالحكم العقلي وبالإنفعالات الفجة كانفعال الغضب الهيجاني.
وتعد التربية بكل أنواعها مقومات تنمية للإنسان وهي تمر عبر مراحل حياته المختلفة،إن التربية هي الحلقة الأكثر أهمية في دورة العنف وتجلياته، وتتضح معها خلفيات وجوده السيكولوجي والاجتماعي والانثروبولوجي والسياسي والتربوي، حيث ينسب تكوينه إلى العنف المدرسي والعنف العائلي والعنف السياسي والعنف الطائفي