حياتي مع أخي


خواطر: د. عبدالرحمن موسى

كنت وأخي في صغرنا ألد أعداء، نتفنن في ممارسة التنكيل والعناء، حتى اتسعت الهُوّة بيننا، فأصبح كلٌ منا للآخر جاحد، لا نطيق الجلوس في مكان واحد، في النهار تحريضٌ وفخاخ، وفي الليل جدالُ وصراخ.
تمر الأيام ويزداد الشقاق وعلاقتنا أصبحت علقماً لا يطاق.
تسعرت في صدورنا النار، واشتكي منا الأهل والجار، والكل لا يملكون لنا إلا الحوقلة والاستغفار.

باءت كل محاولات الإصلاح بالفشل، فوصلنا مرحلة الخطر، وأصبحنا لا نتعامل سوياً إلا بحذر، ولم يكن هناك بُدٌّ إلا الترحال والسفر.
افترق كلٌ منا في مكان، وفقدنا التواصل حتى باللسان، ثم تزوجنا ولم يحضر أحدنا فرح الآخر، وأصبح السوس في عقولنا ناخر.
حاولت التواصل بأخي لمد الجسور، لكنه كان دائم النفور، وبمجرد سماع صوتي يغلق الهاتف، ويجبرني أن أقول لنفسي آسف.
تدَّخل أهلنا وأقاربنا في الصلح والإصلاح، وباءت كل المحاولات بالفشل وعدم النجاح.
كبرنا وأنجبنا وشغلتنا الحياة كلٌ في مجال عمله، أصبحت دكتوراً في علم الإنسان، وأصبح أخي تاجراً يشار له بالبنان.

وفي يوم من الأيام بينما أصلي الفجر في أحد المساجد، قابلني جارٌ قديمٌ لنا ونحسبه لله عابدُ وزاهد، وقصّ عليّ ما حدث لأخي بالتفصيل، وأنه مرض وأوشك على الرحيل.
أخبرني أنه اشترى بعض الأسهم وخسر فيها كل ما يملك، ثم رهن منزله وعقاراته، وباع كل ممتلكاته، وتأثر بذلك نفسياً وجسدياً، وأصابته جلطة أفقدته إحدى عينيه، وأثقلت رجليه وإحدى يديه، ولم يقوى على الحراك، ودائم القشعريرة والارتباك، أصبح طريح الفراش يستيقظ مذعوراً في حال اندهاش.

الحقيقة لم أشعر تجاهه بعاطفة الأخوة الأشقاء، فلقد جعل حياتي دائماً في شقاء
لكني شعرت برهبة الموقف وتبعاته، وحثّني جارنا على الوقوف بجواره ومراعاته.

تبادلنا أرقام هواتفنا، وأخبرني أنه سيسافر بعد أيام ليقضي عطلة الصيف مع أهله.
وفي صباح اليوم التالي ذهبت مسرعاً للسفارة، وتخطّيت كل الأدوار والمارّة.
وأوكلت جارنا لبيع شقتي في مِصر، واتصلت عليه ليقابلني في صلاة العصر.
أعطيته التوكيل، ومبلغاً من المال ليس بقليل، وطلبتُ منه الاستعجال ليوصله لأخي في الحال.
وأوصيته ألا يذكر اسمي عندَه، لكي لا يتمادى في عندِه، وكان مذهولاً مما حدث، ثم دعا لي وانصرف.

وتابعت معه مستجدات الأحداث، وأبلغني أنه قد أعطاه المبلغ، واشترى له بعض الأثاث، ثم باع الشقة وأعطاه ثمنها، وأبلغه أنهم دينٌ عليه يلتزم بسداده حينما يفتح الله له أبواب الرزق.
فرح أخي بذلك ووعده بالسداد، بدأ بالتعافي جسدياً ثم مالياً، وفتح الله عليه أكثر من ذي قبل، وتنوعت أعماله، وكثرت عقاراته وممتلكاته، وشرح الله صدره وتوسّع في أعمال الخير.
مرت الأيام وكبُر الأبناء، وأراد ابني الأكبر أن يتزوج، علم جارنا بذلك، فذهب إلى أخي بدون علمي، وما أن رآه أخي حتى تهللت أساريره وقال لجارنا لقد بحثت عنك مراراً وتكراراً حتى فقدتُ الأمل في العثور عليك، وأحسبك جئت تطلب مالك، والله إني استثمرتها لك معي، وقد زادت قيمتها أضعافاً مضاعفة، فجزاك الله عني خيراً لقد انتشلتني من الضياع والإفلاس، ومن معايرة الناس.
وأخرج من مكتبه دفتر الشيكات ليكتب له الرقم الذي يريده، فابتسم جارنا وقال له على رسلك يا أخي، والله ما جئتك طالباً مال فالمال مال الله أولاً ثم مال أخيك، فاتسعت حدقتا عينا أخي، وتسمّر في مكانه، وارتعدت يداه، واصفرّ وجهه.
وقال:
أخي من ؟ وماذا تقصد؟
ابتسم جارنا وقال نعم أخاك من فعل ذلك وأوصاني ألا أبلغك كي لا ترفض، وأوكلني ببيع شقته ليعطيك ثمنها، لتعود أفضل من ذي قبل وتستكمل حياتك بين أهلك وأبنائك وأحبابك.
نزلت الكلمات كالصاعقة على مسامع أخي، وانهمرت الدموع من عينيه، ثم جثا على ركبتيه ممسكاً بيد جارنا وقال له أستحلفك بالله دلني للوصول إليه، أخي بن أمي وأبي لم أره ولم أسمع صوته منذ ثلاثون عاماً، وكلما همّ بالوصول إليّ سددت الطرق في وجهه.
اغرورقت عينا جارنا بالدموع وقال سأفعل، ولكني جئتك اليوم بدون علمه، وأريدكما أن تتصالحا وتسدد ما عليك من دين فقد كبُر ابنه ويريد أن يشتري له شقة من مبلغٍ قد ادخره لمثل هذا اليوم.
بكى أخي بكاءً مريراً، وقال والله الذي لا اله إلا هو لو أعطيته كل ما أملك ما وفيت حقه، ولكني لن أعطيه مالاً وفقط، وكما كتمت عني سابقاً ما حدث أريدك أن تكتم عني ما سيحدث.
اتفق أخي مع جارنا أن يزوج ابنة أخي لابني، وأخرج من دفتره شيكاً ليشتري له منزلاً في أرقى الأماكن ليكون هدية عرسهما، وأبلغه أنه سيتنازل لي عن نصف ما يملك.
واتفقا سوياً دون علمي أن يكون أول لقاءٍ لنا بعد الفراق في صحن الكعبة ببيت الله الحرام.
وبعدها أخبرني جارنا أنه قد وقع عليّ الاختيار من إحدى مكاتب السفريات للفوز بحجة إلى بيت الله الحرام.
ذهبنا إلى قبلة المسلمين، وعشق العاشقين، وطمأنينة الموحدين، فلها يشتاقُ الفؤادُ المتيَّمُ، وتهفُو إليها الرُّوحُ والدَّمُ.
وما أن رأيت جمالها الأخّاذ، وروعة منظرها الذي يحبس الأنفاس حتى أغمي عليّ مما رأيت من بديع جمالها، ورهبة منظرها.
وما بين إغمائي واستفاقتي أنشدت قائلاً:

دعــــوني أعانقها والدَّمع مني يَهْمِـلُ
وبـ الحــــبِّ من قلبي المتيَّم أَغســـــِلُ
إني أراها نـــــوراً في الشرايين يُشْعَلُ
هنا مقامٌ المحبيــــــن وروعة المَنْزِلُ
هنا الراحة وبشتى الجهاتِ نصلي ونَقْبِلُ

وبينما أنا على هذا الحال شعرت بمن يحتضنني من الخلف باكياً بصوت عالٍ، فأدرت وجي إليه لأرى من هذا الذي يحتضنني من الخلف ويبكي.
فاتسعت حدقتا عيني، وتسارعت خفقات قلبي، وكفَّ نسيم الهواء عن مداعبة وجهي، وابتلعت ريقي بصعوبة، وسال مِن جبيني حبات العرق، وتسمَّرت في مواجهته، ورحت أفرك عينايّ فركًا عنيفًا، وأكرر غلقهما وفتحهما مراتٍ متتالية.
أما هو فصوت بكائه قد علا وعجز عن الكلام، وأخذ يهز برﺃسه ويقول نعم أنا هو أنا أخوك، فاحتضنّا بعضنا حضناً أذاب تحجر قلوبنا، وأسقط دموعنا وهو يردد قائلاً:

أخيّ توأم الروح ضـم أركاني * بحضــــــن دافئ حـانِ
أخي ذكرتك في نبض يحركني * فمالت كــــل أركــــاني
اغفر الهي اذا ما زل منطِقــي * فأنت الرحيم ذو الغفرانِ
حمداً رباه فقد أنعــــمتَ علــيّ * بلقاءٍ فيه شفاءٌ وسـلوانِ
سأرحل اليوم مشتاقاً وأرجــوه * لـقاء على أبوابِ رضوانِ

فرددت عليه قائلاً:
أخِي إنْ شَقَّتِ الدُّنيا طَرِيقَ الغُربةِ القَاسي
وَفَــــــرَّقَ بَينَنا مَوجٌ مِنَ الإِعسَارِ وَالبَاسِ
أخِي قد هَدَّت الأَسفَارُ جِسْمَ الشَّامخِ الرَّاسِي
وَعادَتْ عادِياتُ الشَّيبِ فَوقَ المخ وَالرَّاسِ
وَلاحَتْ عَودَةُ المُشتَاقِ بَينَ الطورِ والنَّاسِ
فانســـــى الَّذي وَلَّى فَأخُوكَ والله ِبالنَّاسي

ثم فجأة وجدت أخي قد أرخى يديه وثقُل جسده، وفقد القدرة على النطق و البكاء، ناديته أخي ماذا بك، أستحلفك بالله ليس اليوم، قم لنسعد بلقائنا، قم لنفرح بوجودنا، قم لنعوض ما فاتنا من بؤس حياتنا ولوعة اشتياقنا وصعوبة فراقنا.
لكن قضاء الله لا مفر منه، فقد توفى أخي في حضني وتركني أعاني لوعة الاشتياق بعد لوعة الفراق.

أيها الأحباب أشقاؤنا هم توأم الروح، بلسم الجروح، شركاء المنازل، والسند في الصعاب والنوازل، ورفقاء اللعب والمهازل، يحملون دماءنا، ويتحملون أعباءنا، ويزرعون قواحل صحراءنا، نتقاسم معهم الضحكات، ونبث إليهم الشكايات.
وحتماً لا يخلو الأمر من قيلٍ وقال، وشجارٍ وجدال، وأفعال صعبة الاحتمال.

لكن على الآباء أن يزرعوا مفاهيم الحب و العطاء، و الصراحة والاحترام بين الأشقاء، و بناء العلاقات الأخوية، لتظل صافيةً نقية، والاعتناء بها كما نعتني بالنبتة الصغيرة فالسلام بين الإخوة أمر مكتسب يتم عادة تحت إشراف الأم و الأب بداية ثم العائلة.

وأخيراً: هذه القصة من وحي خيالي، وبنات أفكاري، قصصتها عليكم لتتداركوا ما فاتكم قبل فوات الأوان، وتُقبلوا على أخوانكم وأحبابكم بقلوب صافية.

حياتي مع أخي
خواطر: د. عبدالرحمن موسى

حياتي مع أخي
خواطر: د. عبدالرحمن موسى

Loading