بقلمي : جمال القاضي

لماذا يحتفظ البعض بهيبته ؟ ولماذا تسقط عن الآخرين هيبتهم ؟


يعيش الإنسان بشخصيات متعددة ، منها من مرحلة الطفولة ولاتزال محتفظة بصفاتها حتى نهاية عمره ، ومنها ماهي مكتسبة نتيجة تعامله مع غيره ،

لكن لماذا تسقط هيبة أشخاص وتبقى هيبة غيرهم كما هي ؟

نعلم جميعا أننا نحمل شخصية الطفولة ورغباتها الشهوانية ، رغم ماتحمله هذه الشخصية من مرح ورغبتها في اللعب ونسيان مايتعرض له الإنسان في حياته ، إلا أننا لظروف تقبلنا في أسلوب التربية الصحيحة والخاطئة منها نضطر معها لدفن هذه الشخصية في أعماق التفكير الاواعي أو مايطلق عليه بالعقل الباطن ، فلا تظهر هذه الشخصية بما فيها من صفات إلا في حالة خلوتنا بأنفسنا بعيد عن أعين المراقبة والتوجيه ، فترى إمرأة عاقلة كبيرة تتصرف في خلوتها بسلوك أطفال ولايناسب أفعال يقوم بها من هم في سنها ، مثل غلق حجرتها وتتمايل على النغمات الموسيقية لأغنية أعجبتها وتردد بصوتها كلمات هذه الأغنية مع من يقوم بغنائها ، وغيرها حين مداعبة طفلها ، تراها تظهر أفعال يرغبها ومثل مايقوم بها هذا الطفل بدندنة بلغات ولهجات لم نجد لها تفسيرا في اللغات المعروفة ، وحين يدخل عليها زوجها فجأة تصمت وتعود لشخصيتها التي يعرفها عنها ، وآخرى لديها هواية اللعب بأدوات اللعب التي يملكها طفلها وكأنها عادت فجأة لمرحلة طفولتها الأولى .

هذه الشخصية مازالت موجودة بالفعل كما هي بنعومة أظافرها الأولى ، ولكن للقسوة التي نتعرض لها في أسلوب التربية من الأب والأم نضطر أن ننساها في أعماقنا الداخلية ، ونتعامل بشخصية جديدة مكتسبة ممن يقوموا بتربيتنا ، وهو شخصية لاتفعل إلا مايرضيهم ، ربما كان ذلك تجنا منا من العقاب الذي قد يقع علينا في حالة مخالفة التعليمات التي تصدر إلينا منهم .

لكن لماذا تضيع هيبة البعض ويبقى الآخرين محتفظين بهيبتهم ؟

الكل منا كتاب بالنسبة للأخر ، هذا الكتاب إما أن تبقى صفحات مغلقة أمام غيره أو أنها تصبح مفتوحة على مصرعيها أمامهم ، ففي الحالة الأولى نلجأ أحيانا لفتح صفحات كتاب حياتنا أما غيرنا ، فقط لأننا وجدنا فيه الراحة النفسية له ، دون دراسة مسبقة عن فهم شخصيته فهما حقيقيا ، فنسمح لهم بالخوض بالقراءة لما يحتويه هذا الكتاب ، ليتعرفوا على تفاصيلنا الداخلية ، ماذا نحب وماذا نكره ؟ فتراهم دائما يقدموا لنا مقترحات توافق رغباتنا ، وكأنهم إحتلوا دواخلنا وقلوبنا ، مما يجعلهم فيما بعد يتحكمون في تصرفاتنا ، مع من نتحدث ، ومع من نصاحب ، لترى منهم فيضا بعد التحكم في القول منهم لاتفعل كذا ولاتأتي كذا وغيرها من الأمور التي تخص شخصيتنا ، ولأننا قد سلمنا لهم مفاتيح التحكم في فتح كتاب حياتنا أصبحت هيبتنا بالنسبة لهم هيبة هشة لأتحترم فيها شخصيتنا ، لنرى منهم القسوة في التعامل والتحكم الذاتي في تصرفاتنا ، فتضيع الهيبة مع هذا الكتاب المفتوح وتسقط أقنعة الإحترام لنا والتي كانت هناك في بداية التعامل .

أما عن الأشخاص الذين بقيت هيبتهم كما هي بل يزدادوا هيبة عن ماسبق لهم ، فيرجع ذلك إلى أن هؤلاء الأشخاص يتمتعون بذكاء فطري ، حيث أنهم لديهم خبرة حياتية على كيفية التعامل مع الآخرين ، نتيجة كثرة خبراتهم بالمواقف الكثيرة التي أجبرتهم على التعامل مع غيرهم ، فهم لايفتحون أي صفحة من كتاب حياتهم إلا بالقدر الذي هم يسمحوا به ولاغيره ، فتظل باقي صفحات الكتاب مبهمة عند غيرهم ، وينعكس ذلك على تصرفات الآخر معهم ، فيعمل جاهدا على الحفاظ عليهم بالصورة التي تصل إليه بالمعرفة القليلة عن شخصيتهم بالنسبة له .

ومن المعروف أن الأشياء الغامضة تبقى هيبتها كما هي ، فالعين دائما لديها نزعة ورغبة في تعرية الأشياء المستورة ، عن طريق إستخدام كل السبل التي يمكن بها معرفة كل التفاصيل لما هو له غطاء يستره ، أو وضع تخيل وتصور عنه من خياله عن هذا الشيء المستور أمامه ، وأن أتعبه البحث في معرفة التفاصيل يرضى بالأمر الواقع لصعوبة الوصول لنتائج بها يستريح عن فهم غيره ، فيبقى هذا الشيء المستور متمتعا بهيبته وكرامته ، وهو مايتشابه معه الإنسان الذي لايكشف كل تفاصيل حياته لغيره ، ليظل محتفظا بهيبته دائما .

لكن الأمر بالصعوبة التي يمكن بها وصفه ، في حالة ضياع الهيبة لكشف كل التفاصيل التي تحملها حياتنا ، الأمر الذي يكون فيه مشقة كبيرة لعلاجه علاجا جذريا ، حيث يتطلب من الشخص الذي حدث معه هذا الأمر الكثير من التضحية لتعود لشخصيته هيبتها كما كانت من قبل .

عليه أولا أن يعرف جديدا أن هذا درسا قاسيا عليه أن يتعلمه في حياته ،
عليه أن ينتقل لمكان جديد ، لاأحد فيه يعرفه من قبل ، يغير فيه الشخصيات التي كان يعرفها من قبل ،
عليه أن يقوم بتصفية أولئك الذي خاضوا برضاه في تفاصيله ويحزفهم حزفا لايمكنهم أويسمح لهم بالرجوع والعودة إليه مرة آخرى حتى لايتكرر سيناريوا الأحداث القاسية ،
عليه أن يضع يديه على نقاط ضعفه ويحاول جاهدا أن يصلح منها بنفسه أو بمساعدة متخصصين يملكون سرية تعامله معهم وقت علاجه ومساعدته .

عليه بالنهاية أن يعلم جيدا أن هيبة شخصيته بما يخفيه فيها ولايبدي منها إلا لمن سبق وأن درس شخصيتهم دارسة لاتدع شكا لديه بخيانة هذه الثقة ولو للحظة ما ، بأن يحتفظوا له بما وثق فيهم من أسراره التي كانت بينه وبينهم ، وذلك بعد أن يجري فيما بينه وبينهم إختبارا لهذه الثقة عن طريق إعطائه معلومات غير صحيحة عنه وينتظر رد فعلهم تجاه مايقول لهم من هذه الأسرار ، فإن إحتفظ بها كان هو أهلا للثقة وأن أفشى سره فيكون قد رسب في الإختبار فيبحث عن من هو جدير بهذه الثقة .

بقلمي : جمال القاضي

Loading