زيارة خاطفة لبورسعيد

لواء دكتور: سمير فرج متابعة عادل شلبى

كلما ضقت من أجواء القاهرة، وضوضائها، وزحام حياتها اليومية، لا أجد لنفسي مخرجاً إلا معشوقتي، وحبيبتي بورسعيد، انطلق إليها على طريق 30 مايو، الجديد، فأصلها، من منزلي بالقاهرة الجديدة، في 120 دقيقة، فقط، عبر طريق عالمي مكون من 6 حارات، على كل جانب، يحيطهم حارات أخرى مخصصة للخدمات والنقل. وما أن أصل لمدخل بورسعيد، حتى انعطف يساراً، إلى المقابر، وأترجل من سيارتي، حاملاً كرسي صغير منطوي، لا يفارق سيارتي لذلك الغرض، فأجلس أمام قبر والدتي، أتحدث إليها، وأغسل في حديثي معها كل هموم الدنيا، وأشكرها على جهدها في تربيتي وتعليمي، حتى أصبحت ما أنا عليه اليوم. وبعدها أزور قبر والدي، ليجمعني به حوار مماثل، أشعر خلاله أنهما يسمعاني، بل ويجيباني، وعلى وجهيهما ابتسامتهما الرقيقة، التي لا تفارق عيناي.
ساعة كاملة قضيتها في صحبتهما، ثم خرجت لشاطئ البحر المتوسط، المواجه للمقابر، لأملأ صدري من هواء بورسعيد النقي، ثم توجهت لمحطتي التالية، وهي لسان ديليسبس، أجمل مكان فيكي يا مصر، على مدخل قناة السويس؛ حيث جلست لمدة ساعتين، فيما كان أجمل فسحة لي في الطفولة، تابعت خلالهما سفن العالم تعبر القناة. وتابعت يومي إلى وجهتي الثالثة، وهي سوق السمك، في الحي الأفرنجي، الذي تتجاور فيه محلات أسماك بحيرة البردويل، التي تعد من أحسن خمس بحيرات أسماك، في العالم، والتي ظلت تحت سيطرة العدو الإسرائيلي، لمدة 6 أعوام، بعد احتلال سيناء في حرب 67، استفادت خلالهم بتصدير كامل إنتاج البحيرة المميز إلى أوروبا، من أسماك البوري والموسى والدنيس، التي أتحدى أن تجد لها مثيلاً في العالم كله، ولم تُدخِل منها سمكة واحدة إلى إسرائيل.
وفي العقود الماضية تعرضت بحيرة البردويل، ضمن 11 بحيرة في مصر، لعمليات التعدي والتجفيف، وإنشاء مزارع غير قانونية، حتى قرر الرئيس السيسي الإشراف بنفسه على تطهير وتطوير هذه البحيرات، فكان منها بحيرة البردويل، وبحيرة المنزلة، التي تمد ثلاث محافظات، بورسعيد ودمياط والدقهلية، بأجود أنواع الأسماك وأرخصها، مثل البلطي الأزرق للشوي والأبيض للقلي. ووصلت إلى سوق السمك، لأشتري سمك موسى البردويل، فلاحظت قلة المعروض منه، ولما سألت عن السبب، عرفت أن معظم الإنتاج يُصدر، حالياً، لأوروبا، بعد زيادته المضطرة، الناتجة عن تطوير البحيرة وتعميقها، وتطهير البوغاز على البحر المتوسط، وحفرها على أعماق مختلفة، لتناسب توالد كل الأنواع، فضلاً عن تكامل تلك الجهود ببناء مصنع للفوم، ومصنع للثلج، ومطار جديد للتصدير، بالإضافة لتصنيع الدول الإسكندنافية وأوروبا لعدد 100 مركب جديدة للصيد، في ترسانة التمساح التابعة لقناة السويس، مزودة جميعها بأحدث المعدات وأجهزة السونار لتحديد أماكن أسراب الأسماك.
ومع نسمات فجر كل يوم، يصل الصيد الوفير، ليتم فرز الأسماك في محطة كبيرة، ثم يغلف في عبوات الفوم، بواسطة الثلج، وتطير الطائرات لنقل هذه الأسماك في العاشرة من صباح كل يوم إلى أوروبا، وأصبح دخل بحيرة البردويل، اليوم، يماثل عشر أضعاف ما كان عليه في الماضي، وصار إنتاجها يحتل مراكز الصدارة في الأسواق الأوروبية. ورغم تصدير معظم إنتاج البحيرة إلى أوروبا، وهو ما يؤثر نسبياً على حصة المتاح محلياً، إلا أن أهالي بورسعيد يدركون أهمية التصدير، ويقرون بأنه رغم انخفاض نسبتهم، إلا أن ارتفاع جودتها يعوض ذلك. وقد شهدت على ذلك بنفسي، بعد شراء اثنين كيلو من سمك موسى الرائع، واثنين كيلو من سمك البوري، ودخلت للفرن المجاور في الشارع الجانبي، لشوائهم على “البلاطة” بالردة، لأستمتع بأشهى وجبات السمك المشوي، الذي تشتهر به بورسعيد ودمياط.
واستكملت طريقي داخل السوق، لشراء البلطي، من بحيرة المنزلة، أو كما يطلق عليه البورسعيدية “الشبار” أو “الجوابي”، وهو سمك البلطي الصغير، المكتظ بالبطارخ، في هذا الوقت من العام، ويعد الوجبة الشعبية الرئيسية لأهالي بورسعيد ودمياط والمنزلة والمنصورة. وتحدثت مع البائع، سائلاً عن أفضل ما عند، فأجابني ببساطة، أبهرتني، “والله كله حلو، بعد المعجزة اللي حصلت السنة اللي فاتت … تخيل حضرتك بحيرة المنزلة كانت قربت تضيع مننا، لولا الريس السيسي، الله يكرمه أتدخل وطهر البحيرة … المزارع السمكية اللي كانوا الأهالي عملوها دمرت البحيرة، ومنهم ردموا البحيرة، وعملوها مصب لمياه الصرف الصحي والزراعي، وكانت مرتع للخارجين على القانون … بس كل ده انتهى … ده إحنا شفنا كراكات مخصوص من بلاد برة بتعمق البحيرة، والبوغاز اتفتح لتجديد المياه، وشالوا كل التعديات، ورجعت بحيرة المنزلة أحسن من الأول، ده حتى الجيش عمل طريق دائري طوله 14 كيلو حول البحيرة ليمنع التعدي نهائياً … ورجعنا ناكل أحلى شبار في الدنيا والله، ورجعت الأفران تشتغل كل يوم”.
وعدت من بورسعيد، فشاهدت، في نفس الليلة، السيد الرئيس يتابع مع أعضاء الهيئة الهندسية للقوات المسلحة أعمال التطوير الجارية في بحيرات مصر الأحد عشر، التي كنت شاهد عيان، في صباح ذلك اليوم، على نتائج تطوير وتطهير اثنتين منهما وهما بحيرات المنزلة والبردويل، أكبر، وثالث أكبر البحيرات المالحة في مصر. أن خيرات مصر عظيمة والله، ولم يكن ينقصنا إلا الحفاظ عليها، وحسن إدارة مواردها وثرواتها لتغطية احتياجات المواطنين، ولتحقيق كل الخير لأبناء مصر.

زيارة خاطفة لبورسعيد

Loading