كتب _ محمد عواد

 وكتبت مقالي هذا بعد حلقة نقاشية مع برنامج "بالريشة والقلم" مع الإذاعية القديرة/ د. أماني محمود، بعنوان" دور الكلمة في صناعة الوعي" 
لم يمكنني الوقت من عرضه عن أمر غاية في الأهمية وهو كيف نصنع وعيا مجتمعيا، ينتشلنا مما نحن فيه، يتدارك تراجعنا الفكري والثقافي والأخلاقي..لقد أصبحنا بحاجة ماسة للأمر قبل أن ننزلق في هاوية لا قرار لها...

 وفي سؤال مهني من الاعلامية/ أماني محمود، تسأل فيه:- " هل حديثنا سوف يكون عن صناعة الوعي؟ أم توجيه الوعي؟"، فأجبتها، بل صناعة الوعي، لسبب بسيط وهو أننا الآن نعاني من نضوب في كل مدارك الوعي، نحن نوجه الوعي حين نملك بعضا منه، ولأننا لا نملك أقل القليل منه، فوجب علينا صناعته !
  كان السؤال أعمق من الإجابة عليه، فللوعي الجمعي أطر كثيرة، اولها ان يكون المجتمع يعاني من نضوب كلي في وعيه الجمعي، ومن الممكن أيضا أن يملك وعيا موجها، سلبا أو إيجابا، يجر إليه جر "النوق" لمرابط الإبل، وهو في النهاية صورة من صور قناعات الوعي، أما الأمر الثالث، ان يكون المجتمع يبطن وعيً حقيقيا، ولايبديه ولا يدافع عنه، ولربما يتبنى رؤى لا تعبر عن قناعته حين تصطدم قناعاته مع مصالحه !!!

هذا ما ارادت السيدة أن تأخذني إليه، ولم اتدارك مبتغاها والمساحة النقاشية التي ارادت أن تضعني فيها !!!
ولكي نفند الأمر، يجب علينا توصيف كلمة “الوعي” أولا، نفندها ونضعها مواضعها الصحيحة، لنتمكن من تكملة حديثنا عن الوعي !
ف”الوعي” صفة يمكننا توصيفها “بأنه هو الإستطاعة العقلية التي تتمكن بها تمييزا بين الحق والباطل، وبين المتقول والقائل، وبين المتحدث والناقل”، الوعي الحقيقي أن تملك منطقا وعقلا وتحليلا، لايمرر كل ما يمرر عليك دون مراجعة وتحليل يصنع لديك رؤية تجعلك تتبنى الأمر أو تلفظه، الوعي أن لا تكون إرادتك “مرحاضا” يتغوط فيه من يشاء، متى يشاء !

والتوعوية ليست نزهة كما يتصور البعض، صناعة الوعي تتطلب من معتنقها كثيرا من الجهد والصبر، فالتغيير أمر بالغ الصعوبة، فالطبيعة البشرية بفطرتها تقاوم تغيير القناعات، حتى لو آمنت بالأمر، ستنكره وتدافع عن باطله، لأن الانسان بفطرته مكابر معاند، لأنه يظن جهلا تبنيه رؤية تختلف عن توجهه تعتبر نوعا من الإخفاق الفكري الذي لم يوسعه أن يتبني الحقيقة، يفضل المرء أن يبدو دوما عالما محيطا لا يخطئ أبدا !

وعلى سبيل المثال، يقول أحدهم لأحدهم، “الدولة لا تستحق أن ندفع الضريبة لها، لأنها لاتقدم الخدمات لنا كمواطنين”، هنا تتماهى المصلحة الشخصية مع التوجيه السلبي، رغم قناعة المتلقي بسلبيته وعدم منطقته، ورفضه عقليا، هو يعرف أن الضرائب منبعا هاما من موارد الدولة، وأن الدولة تقدم خدماتها على قدر ما تستطيع، ولكنه يقنع نفسه وربما غيره بالأمر كذبا !
والأصعب من تغيير الفكر..تغيير السلوك..رغم أن تغيير السلوك يتوجب معه تغييرا في الفكر، لكن ربما يتغير السلوك أحيانا مخافة ردع أو عقاب، على سبيل المثال” تجبرك الغرامة على عدم التدخين في المواصلات”!!، ناهيك عن ما يتعرض له الذي يحاول التغيير السلوكي من عداء مفرط يصل لحد الحرب عليه، أعرف أحدهم يعمل في مؤسسة صناعية، حاول الأمر، فدبروا له مكائد الدنيا كلها !!!

وعودة مرة اخرى لكيفية صناعة الوعي الجمعي...
 صناعة الوعي ضرورة للمجتمعات ضرورة الماء والهواء، وكل مجتمع غير واع لن ينال رقيا ولا تقدما أبدا، مهما توفرت مقومات تقدمه، والوعى ضرورة للحاكم والمحكوم، والوعى أيضا ليس مهمة الحاكم وحده، يجب أن يتبنى الجميع هذه الرسالة السامية، حاكم ومحكمون، والحاكم غالبا هو الذي يحتاج لأن يوعيه الشعب عن كل زلة يزلها، وليس هذا غريبا،فببساطة شديدة يجب أن ندرك أن الحاكم فردا، والمحكوم أمة، والحاكم المتدارك يجب عليه أن يبحث من بين أفراد امته من يملك أمانة توجيهه توجيها يخدم عليه منصبه وشعبه...

  صناعة الوعي هي مهنة الشرفاء لا جدال في الأمر، اما عن هولاء الذين يصرون علي سحقه فلن تجدهم إلا منتفعين أو متمصلحين، أو لهم أيدولوجية ما يخدمها الغياب الذهني لهؤلاء، وهم أيضا يملكون ذكاءا مميزا، يستطيعون به تغيير دفة المجتمع لمنتحى يخدم مصالحهم ورغباتهم، يعرفون جيدا كيف يمرقون لذهن مستهدِفيهم، يعبثون بمعتقداتهم، بدينهم، بمصالحهم، بل ويستطيعون أن يصيغوا أدلة من أدمغتهم زورا وبهتانا خدمة لأيدولوجيتهم، يستطيعون أن يوؤلون أية من كتاب الله، تستبيح بها دما طاهرا، يهبك بلا عناء خسارة الدنيا والأخرة، إنهم حقا شديدي الذكاء..

والمؤسف أيضا ما يسلكه الناس عند تصحيح الرؤى، يكون في ذاته خطأ آخر، فعل سبيل المثال، عندما نحاول إصلاح التطرف اليميني بتشدده ومقته، نذهب بالمجتمع لأقصى اليسار، لنعطية جرعة ضخمة من النقيض، مطلقا!! لن يكون الحل الأمثل لعلاج مشكلة التطرف الديني مثلا، نشر الإلحاد والعري والماسونية والمثلية في المجتمع، هنا ينطبق على من يفعل الأمر المثل الشعبي" جه يكحلها..عماها"!!

الوعى الحقيقي أنك لا تفرط في القيم، الوعي ليس نشر “المثلية” والدفاع عنها نكاية في الدين، وانتقاما من المنهجية التطرفية التي لا تعبر عنه مطلقا، الوعي الحقيقي ان تنشر المثالية في من حولك، الوعي الحقيقي أن تنتهج طريقا مضيئا يصل بالمجتمع لمرافئ الأمان!!!

وفي النهاية، يجب على الجميع أن يصنع فكره الذي يخصه، يسمع من كل الموجهين لفكره، لا يُسلم رؤاه لهذا ولا ذاك، يتدبر أمر أحاديثهم، يفكر فيها متجردا من كل مصلحة أو توجه يعتنقه، سيجد في النهاية الحقيقة جلية في ذهنه، فالحقيقة دوما باهية ناصعة البياض كضوء الشمس، هنا يستطيع المرء فينا أن يتبنى فكرا باذخا، أقتنع به عن طيب خاطر، لم يبوله احد ما في ذهنه، هنا هو عرف الحقيقة بنفسه، وسيجد متعة في الأمر !!
لكنني في النهاية اعترف بأمر محزن، وهو أن الجميع لم يهبهم الله إحاطة ذهنية تستطيع أن تميز بين الكذب والحقيقة، ولكن أيضا، أعرف جيدا أن كل من حاول الأمر، فقد يستطيع !!!

Loading

By عبد الرحمن شاهين

مدير الموقع الإلكتروني لجريدة الأوسط العالمية نيوز مقدم برنامج اِلإشارة خضراء على راديو عبش حياتك المنسق الإعلامي للتعليم الفني