المستشار أحمد حسن يكتب
متى تتوقف الحرب الجارية فى الخرطوم ؟ ، وهل من أفق أفضل للسودان مع وقف شامل مستدام لإطلاق النيران ؟ ، تبدو التمنيات الطيبة مفهومة ومبررة أخلاقيا ، لكن الواقع يمضى للأسف فى اتجاه معاكس ، فعبر ثلاثة أسابيع من الاقتتال حتى اليوم ، توالت “الهدن” واتفاقات كف النار ، ومع ذلك جرى اختراقها جميعا ، وكل طرف يتهم خصمه ، وحتى لو جرى تمديد “الهدن” إلى أسبوع أو حتى أسابيع ، فقد لا يعنى ذلك إمكانية التوصل إلى حل بالتراضى ، فطبيعة المعركة صفرية ، ولا نهاية لها بغير إنهاء كابوس وجود جيشين حاكمين فى السودان ، فكل بلد مستقر فى الدنيا له جيش واحد ، وإلا صار الأمر فوضى دامية ، وميليشيات تتنازع وتتقاتل بلا نهاية .
ولم يعد شئ مما جرى خافيا ، فقد بدأ الاقتتال الحالى منذ 15 أبريل الفائت ، وكان الهدف ظاهرا ، وتصور محمد حمدان دقلو “حميدتى” قائد ما يسمى “قوات الدعم السريع” ، أن القصة ستنتهى فى دقائق أو حتى فى ساعات ، وأنه سيفوز بحكم السودان وقيادة الجيش ، وهو ما يفسر أسلوب “الصدمة والرعب” الذى استخدمه ، وانقضاض قواته على الحرس الرئاسى ، وعلى حماية الجنرال “عبد الفتاح البرهان” القائد العام للقوات المسلحة السودانية ، وبهدف قتله أو اعتقاله ، لكن الأمور جرت بغير ما اشتهى “حميدتى” ، ونجا “البرهان” رئيس المجلس السيادى ، واعتصم بغرف مبنى “القيادة العامة” ، وبجنرالات الجيش ، الذين أداروا الحرب باحتراف ملحوظ ، وتحركوا بطول وعرض السودان وولاياته ، ونجحوا فى طرد قوات “حميدتى” من قاعدة “مروى” فى الشمال ، ومن كل القواعد والمعسكرات والمطارات ،
اللهم إلا من متاعب تبقت فى مطار “نيالا” بدارفور ، ومن مطار العاصمة الخرطوم طبعا ، وقد تعطل تماما ، وتحطمت أغلب الطائرات المدنية السودانية والأجنبية فيه ، بسبب الاشتباكات الدائرة داخله وحوله ، كما حول “القصر الرئاسى” ، وفى مدن الخرطوم الثلاث (الخرطوم والخرطوم بحرى وأم درمان) ، فيما لجأ شتات “الدعم السريع” إلى الأحياء السكنية المكتظة ، بعد إجلائهم قسرا عن 11 معسكرا كانت لهم فى الخرطوم وما حولها ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن الهدف الأول للحرب العبثية جرى إفشاله ، وإن كانت معاناة أهل الخرطوم تتفاقم ، فقد انهار الأمن تماما ،
واتقطعت أغلب الخدمات ، وجرى غلق أغلب المستشفيات والصيدليات والمخابزوالمتاجر ومحطات المياه والوقود ، ونهبت البنوك ، وتفشى السلب والقتل والترويع ، واقتحام كل السجون وإطلاق كل المجرمين العتاة ، وتضاعفت أسعار السلع وأجور الانتقال إلى حدود جنونية ، وتوالت قوافل الراغبين فى النجاة من الجحيم ، وصار أغلب حرص ما يسمى “المجتمع الدولى” ، أن يسحب رعاياه ودبلوماسييه ويغلق السفارات ، وطغت قصص إجلاء العرب والأجانب ، تماما كما قصص النزوح واللجوء الواسع فى طرق الآلام عبر حدود السودان مع سبع دول مجاورة ،
وانتهينا إلى وضع بالغ التعقيد ، فكل يوم يمر يفاقم خطورة المأساة ، ولم يسبق للسودان على كثرة حروبه الأهلية ، أن واجه وضعا كهذا منذ استقلاله الرسمى فى يناير 1956 ، جيشان رسميان يتقاتلان فى العاصمة نفسها ، ففى عام 2008 ، كان الوضع مختلفا ، وصد الجيش هجوما على “أم درمان” من “حركة العدل والمساواة” القادمة وقتها من “دارفور” ، وكانت النتيجة محسومة سريعا لصالح الجيش ، لكن قوات “حميدتى” كانت موجودة فى كل الخرطوم قبل بدء الاقتتال ، وبعديد يصل إلى نحو 50 ألفا ، وبكامل أسلحتها و2500 عربة دفع رباعى ، ومتمركزة إلى جوار جنود الجيش فى كل المراكز السيادية ، وفى قلب مبانى القيادة العامة ذاتها ، إضافة لما جاءها من مدد إضافى ،
وفى ساعة الصفر حدث الغدر المفاجئ ، وبرغم صدور قرار لاحق من “البرهان” بحل تشكيلات “الدعم السريع” ، وسحب ضباط الجيش وحرس الحدود والشرطة المنتدبين إليها ، إلا أن الفأس كانت وقعت فى الرأس ، وانتشرت “قوات الدعم السريع” فى كل أنحاء العاصمة ، واعتقلت عددا كبيرا من ضباط الجيش من منازلهم ، واحتجزت أسرهم كرهائن ، كما تستخدم المدنيين كدروع بشرية ، وهربت من غارات سلاح الجو السودانى ،
وتحركت فى مجموعات صغيرة بالشوارع الداخلية ، وواصلت القنص من أعلى المبانى ، ولا تزال تشكل تهديدا لكل المرافق السيادية وسط الخرطوم ، فوق الاستيلاء على أغلب المرافق الخدمية ، وهو ما يعجز الجيش عن استخدام فوائض قوته وأسلحته الثقيلة خوفا على حياة وممتلكات المدنيين ، فى الوقت الذى تمضى فيه عمليات التطهير ببطء ، مع تكرار الوعود بالتصفية النهائية لتمرد “قوات الدعم السريع” ، وفى آجال قدرها الجنرال ياسر العطا ـ مثلا ـ بنحو أسبوعين إضافيين ، يدخل فيها عمر الاقتتال إ…