عذرا !! OOPS!!


بقلم: أحلام رحالي
مراجعة وضبط: تامر إدريس

“سميرة” فتاة رقيقة تحيا حياة روتينية بسيطة تتمثل في الاستيقاظ مبكرا حتى تذهب إلى عملها نشيطة هادئة؛ فتقوم بمهام عملها على أكمل وجه، تتلهف لحلول موعد الانصراف لتقفل عائدة إلى بيتها الذي هو بمثابة مملكتها الصغيرة؛ تحضر أشهى الأطعمة وتعد ألذ الأشربة، تنظف الأرجاء وترتب الملابس وتغدق بالبهجة والسرور على أفراد أسرتها، وتتناسى في سبيل إسعاد الجميع الاهتمام بنفسها.


طيلة أيام الأسبوع، الشهر، السنة وهذ ديدنها دائما وأبدا دأبت ذلك بلا كلل من جانبها أو ملل. تعمل كملاحظة بدار حضانة للأطفال أو (ملاكا ترعى ملائكة الأرض) على حد وصفها هي لعملها. تدور كما النحلة في حيويتها وكفاءتها، وتتحرك كما الفراشة في خفتها ورشاقتها. تصنع الأشكال الجميلة وترتب الألعاب الممتعة لتسعد الأطفال وتبهجهم.


تستعمل (الترامواي) كوسيلة نقل تستقلها للذهاب إلى محل عملها بشكل يومي، ترتشف قهوتها مسرعة كل صباح، تقبل يدي أبيها وأمها ثم تهرول إلى عملها وهي محملة بوافر الدعوات وسيل من الأمنيات منحت إياها من والديها مع ابتسامة ترتسم على شفتيها المرمريتين تلازمها دائما وأبدا. تستقل (الترامواي) في تمام السابعة صباحا. تقف تنتظر “حازم” كما تسميه هي؛ حيث أنها لا تعلم اسمه على وجه الحقيقة، تنظر إلى الناس تارة وإلى السماء تارة أخرى، تضحك عيناها قبل أن تبتسم شفاهها، تمضي مسرعة دون انتباه لأي من تفاصيل محيطها.
وذات يوم تعثرت قدمها صدفة بحفرة في طريقها؛ فطأطأت رأسها لتطمئن على سلامة قدمها وإذا بشخص في الطريق المعاكس يصطدم بها على سبيل الخطأ، تتوتر وتعتذر منه ويذهب كل منهما في طريقه.


تمر الأيام تلو الأخرى وهي ماضية في ذات الروتين المعتاد إلى أن جذب انتباهها على حين غرة مرور شخص ما مزدان بمعطفه الشتوي الأسود بشكل مطرد ومتتابع، يصادفها في ذات الطريق وبنفس موعد خروجها إلى العمل، تلاحظه وتطيل النظر إليه، وهكذا بقيت على هذا المنوال حتى حل فصل الربيع، تفتحت الأزهار واعتدل الجو؛ وارتدت من جميل ثيابها ما يعكس زهو الربيع، وما زال نفس الشخص مستمرا في ملاقاتها في ذات الطريق بشكل يومي.
يوما ما قررت الخروج إلى عملها قبل الموعد المعتاد استجابة لطلب صديقتها أن تحل محلها باكرا حتى تأتي هي؛ فقبلت واستعدت؛ والسعادة تغمرها؛ فها هي فرصتها في قضاء وقت أطول مع ملائكة الأرض تتحقق. وصلت إلى مكان لقائها النمطي مع “حازم” بمدة يسيرة، وظلت تنتظر حتى سلبها شخص آخر انتباهها بشكل عفوي ودون سابق إنذار، ها هو يجلس في إحدى زوايا المقهى بعيدا هناك، يرتشف قهوته، يطالع جريدته، وفي آن آخر يدخن سيجارته بطريقة رومانسية رقيقة؛ بدا وكأنه يغازل فنجانه حينا ويلاطف سيجارته الأشبه برفيقته حينا آخر.
أمعنت النظر فيه فإذا بها تعرفه حقا!! إنه “حازم” الذي تنتظر مروره منذ مدة، ترسل له ويعيد إليها النظرات بشوق ولهفة، أكمل قهوته، أنهى سيجارته، وتهيأ لمغادرة المكان. نظر إليها بطريقة

مركزة ومطولة ثم انصرف وهو يبتسم لها؛ شعرت وكأنما تلك الابتسامة قد تحولت إلى سهم نافذ اخترق قلبها بلا دفاع منها أو تهيؤ للمواجهة أو أنها قد غمرت بشكل تام في ماء شديد البرودة أو أنها في مهب نسيم منعش لكيانها لطيف بفؤادها أو أن آذانها قد طربت وتلذذت باستماعها لسيمفونية من أعذب الألحان. ابتسمت ثم انصرفت، صعدت إلى (الترامواي) ذاهبة إلى عملها كالمعتاد. استمر الحال هكذا لفترة طويلة دون أن يخطو أحدهما نحو الآخر خطوته الأولى.
مر شهر، اثنان، ثلاثة، ستة أشهر، عام، عامان وهي متوارية عن الأنظار بلا سبب معلن يعلمه هذا الرجل عنها، لا يعرف طريقا للوصول إليها، ودون أن يجد وسيلة للاطمئنان عليها. فجأة يلتقيها صدفة في أحد أيام الشتاء؛ استوقفها بلطف وسألها: “أين كنت؟”، نظرت إليه، أخرجت يدها من معطفها برفق، نزعت قفازها وإذا ببريق ذهبي لامع يرى في وهجه الأخاذ ساطعا من بين أصابعها الرقيقة (خاتم خطبتها)، فعقب على الموقف بقوله: “عذرا !! * OOPS !!”.
فهم حينها أن هناك من سبقه وخطا نحوها خطوته الجادة بثبات؛ فكانت هي من نصيبه، وكان هو من نصيبها. ابتسم كل منهما ابتسامة وداع للآخر، ومضى كل منهما في طريقه لتطوى بذلك صفحة من أبهى وأرقى صفحات الحب العذري العفيف إلى الأبد.

Loading