كتب: شحاته على ابودرب
بسم الله الذي أنزل من العلم ما يعين الناس على فهم أنفسهم و فهم الكون من حولهم،
فيستطيعوا تملك زمام شهواتهم و إدارة مقدّرات، الكون الذي هم مستخلفون فيه بفضل الله و كرمه و مَنّه .
و الصلاة و السلام على النبي الأمي الذي علّم المعلّمين ، و فسّر قول رب العالمين فيسّره للعرب و العجم ،
و هدى اللهُ به من سمع و علم ، فصلاة و سلاماً دائمين متلازمين حتى قيام الساعة .
ثم أما بعد:-
إن سيغموند فرويد، أسس نظرياته في علم النفس بنائاً على الخبرات التي اكتسبها من خلال جلساته مع مرضاه،
من أصحاب الضغوط و الأمراض النفسية ، و قد عمم هذه النظريات على كل البشر ، فقال بأن المنبع الوحيد للسلوك عند البشر هو إشباع الشهوات ،
و اعتبر أن كل البشر مرضى نفسيين و لو بدرجات مختلفة ، لدرجة أنه اعتبر الإحساس بالذنب مرض ،
و الشعور بالندم عقدة نفسية ، و الصبر على المكاره برود ، و ترويض الشهوات كبت، يؤدي إلى عواقب وخيمة.
و إذا ذهبنا إلى نظرة القرآن فنجد أنها مختلفة تماماً عما يراه فرويد ، فالقرآن يعلّمنا أن قمع الشهوات و الإحساس بالذنب و الندم و التوبة كلها دلائل على سلامة النفس ،
و أن الإنسان المنغمس في شهواته و ملذاته هو صاحب النفس الفاجرة التي لن تنعم إلا بسعادة مؤقتة ثم تشقى في الدنيا و الآخرة.
و قد بالغ فرويد في تقدير الدافع الجنسي فاعتبر أن جُل تصرفات الإنسان تنبع من الرغبة الجنسية ،
حتى تعلُّق الطفل بأمه اعتبره عقدة نفسية و سماها “عقدة أوديب” ، و تعلق الطفلة بأبيها عقدة و سماها ” عقدة ألكترا ”
في حين أن القرآن حثّ على الإرتباط بالوالدين و اعتبره ظاهرة إنسانية إيجابية ، تدفع الأطفال حين يكبروا لأن يكونوا باريين بوالديهما ،
ووصل إهتمام القرآن ببر الوالدين لدرجة أنه جعله في المرتبة الثانية بعد عبادة الله سبحانه وتعالى فقال الله عزّ وجل في القرآن،
(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا) [ النساء: 36]
أما إذ نظرنا إلى تفسير فرويد لما يراه النائم من أحلام فإنه يفسرها تفسيراً شمولياً على أنها مجرد إشباع لرغبات مكبوتة،
يعجز الإنسان أو يمتنع عقله عن إشباعها في حالة اليقظة فتتخزن في العقل الباطن و تخرج أثناء النوم كأحلام .
أما القرآن فيقسّم الأحلام إلى قسمين ، أولهما “أضغاث الأحلام” و هي التي تأتي من النفس الأمارة بالسوء أو من وسوسات الشياطين و أغلبها ينساه الإنسان بمجرد استيقاظه ،
و ثانيهما “الرؤى” و هي حديث الله لنفس الإنسان أو حديث الملائكة المكلّفون ، و هذه الرؤى تأتي منحة أو رحمة من الله بالإنسان،
فتكون تبشيراً له بخير قادمٍ أو تنبيهاً ليستعد لتقبل ابتلاء معين فيُثاب علي صبره و استرجاعه .
أما إذا انتقلنا من المقارنة بين علم النفس و القرآن في مرحلة التشخيص للمقارنة بينهما في أساليب العلاج ،
فنرى أن علم النفس يقول بأن النفس البشرية لا يمكن تغييرها ، و أنها تصل إلى تركيبتها النهائية في السنين الخمس الأولى ،
و كل ما يفعله طبيب النفس في العلاج هو محاولة إخراج المخزون الضاغط على النفس من منطقة اللا وعي إلى منطقة الوعي ،
و إشباع تلك الرغبات المكبوتة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، و هو بذلك لا يقدم علاجاً نهائياً للمرض ، و لكنّه يعطي نوعاً من أنواع المسكّنات التي تساعد على التعايش مع ذلك المرض .
في حين أن الإسلام يدفع بإمكانية تغيير النفس البشرية ، و إنتقالها من النفس الشهوانية الغارقة في الشهوات إلى النفس القوية المجاهدة،
التي تتسامى فوق رغباتها ، و تحيا في كنف ربها ، مستمتعةً بلذة القرب منه .
و يحدد الإسلام ثلاثة مراحل لعلاج النفس و عودتها إلى فطرتها السليمة ، أول هذه المراحل هو الإعتراف بالذنب و الإقرار به ،
ثم مرحلة التوبة و التوقف عن هذا الفعل الذي يجلب الألم النفسي بعد ذهاب لذته المؤقتة ،
لتأتي المرحلة الأخيرة و هي مجاهدة النفس و الإصرار على عدم الرجوع إلى ذلك الفعل و استبداله بفعل يرضي الله و يجلب السعادة الدائمة.
و مما أدى إلى فشل الطب النفسي في علاج العديد من الحالات هو تفسيره لتكوين النفس البشرية على أنها مجموعة من المركّبات الكيميائية و الجينات الوراثية ،
و إنكاره لفكرة أن هذه النفس لا يمكن تشريحها أو إخضاعها للتجربة بالمقاييس المادية ، و لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا من خلال خالقها سبحانه وتعالى الذي قال :-
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [سورة الشمس]