شحاته_على_ابودرب
في غرفتي المظلمة ، بعد أن ذهب النهار ، واستولى الليل على عرش الأرض ، وجّهت وجهي لخالقي أناجيه وأحدّثه
– يا رب .. أحب أن أسير إلى مغفرتك ، في قافلة الطاعة ، تحت لواء معيّتك ، ولكنني كل ما حاولت الإقتراب وجدتني أبتعد ، ساعة أسير إليك ، وساعة أتقهقر إلى ملذاتي وشهواتي ، ثم يفترسني خوفي من النار ، وأخجل إذا تذكرت أنك تراني ، فأحتشم في أفكاري ، و أُقوّم ميل نفسي ، ولكن سرعان ما تتخطفني كلاليب الملذات ، وأجد نفسي بين براثن المُلهيات ، فما الحل يا ربي ؟ وكيف النجاة ؟
غفوت وأنا على حال مناجاتي ، وما إن استقر جفني مغلقاً ، حتى سافرتُ بقارب أحلامي ، عبر الزمن إلى الخلف ، تعلوا بي امواجُ سنينٍ وتهبط بي أخرى ، حتى رسوت على شاطئ القرن الهجري الثاني ، مئة من الأعوام مرت منذ رحيل محمدنا الأكرم من مكة في جُنح الليل إلى يثرب يهدي ويعلّم .
وقفت على تلٍ في صحراء البصرة ، بيتٌ فوق التل مضيء ، ذهبتُ إلى البيت ، طرقت الباب ، فتحت لي جارية ، أنظر في الأرض و أسألها
=لمن تلك الدار
-لمولاتي رابعة العدوية
= (في دهشة) العابدةُ الزاهدةُ التقيّة
– هي سيدتي ، وليس سوانا بالدار ، من أنت ؟ و من أي ديار ؟
(نظرت إلى أعلى وقلت بصوت مهموم متأثر)
=أنا رجل من قرن آتي ، أغرق في بحر ملذاتي ، أضعت بجهلٍ منّي حياتي ، سافرت بروحي من قرني ، أطارد أحلام نجاتي ، و أهرب من خوفي من النار ، لرضا ربّي و للجنات .
وما كدت أفرغ من قولي ، إلا و انفتح الباب أمامي ، و رأيت الأنوار انبعثت في جُنح الليل الحالك ، ثوبٌ من صوفٍ أبيض ، وخمار فوقه أبيض ، يستر وجهاً كالقمر يشعّ ضياء مستوهج ، عرفتها فوراً ، هي رابعة العدوية تجلس راكعة في وسط البيت ، ترفع كفيها إلى أعلى ، تناجي خالقَها وتقول
يا طبيبَ القلبِ يا كل المُنى
جُد بوصلٍ منك يَشفي مُهجتي
يا سروري يا حياتي دائما
نشأتي منك وأيضاً نشوتي
قد هجرت الخلق جمعاً ارتجي
منك وصلً فهو أقصى مُنيتي
(لرابعة)
سمعتها وشعرت أنني وجدت ضالتي ، سأجد عندها دوائي ، فهي التي هجرت ملذات الحياة ، و أقبلت على حب الإله ، هي أيقونة العشق الأولى ،إنقطعت عن كل ملذّة ، فلم تتزوج ، لم تنجب ،لم تسكن قصراً ، لم تلبس حريراً ، لم تتحلى بالذهب ، هي عنوان التصوف والزهد والعلم والأدب .
تجاوزتُ الخادمة و دلفتُ إلى الداخل ، وقفت على بعد خطوتين كانت رابعة تناجي ربها ، لم تشعر بوجودي كانت جسداً في الدار ، أما الروح فهي تقف على الأعتاب ، تناجي رب الأباب ، رحمنٌ مُعطي وهّاب
يا سروري ومُنيتي وعِمادي
وأنيسي وعُدّتي ومُرادي
حبك الآن بُغيتي ونعيمي
وجلاءٌ لعينِ قلبيَ الصادي
ليس لي عنك ما حييتُ براح
أنت منّي مُمَكَّنٌ في السواد (لرابعة)
سال دمعي و ارتفع عزفُ بكائي ، فشعرت رابعة أخيراً أن في بيتها محتاج ، تائه يبحث عن دليل في صحراء معاصيه ، يجره من يده ليهديه ، نظرت نحوي و ابتسمت في خجل و قالت :
– يا هذا ما يبكيك ؟ هون من همك ما دام الدنيا ، فالدنيا أرخص من دمعه عينك .
– ما للدنيا بكائي سيدتي ، أعرفها فانية مهلِكة ، لا يصفوا فيها نعيم ، ولا تُمدح أو تُشكى .
– قولكَ خيرُ القولِ ، إذا كان
بصدقِ الإخلاص قد ازدانا ،
فالدنيا غادرةٌ تاتي لسكانٍ
تطردهم وتُسكّن سكّانَا .
-هذا يا سيدتي سر بكائي ، أصل المرض وعين الداء ، أنا رجل أعلم أشياءً ،و أُناقض تلك الأشياء ، أعلم أن الدنيا فانية ، دار بلاء للأحياء ، تغرّر من يستشرفها ، وتغدر حين أُناديها لوفاء ، ولكني أعشقها عشقاً بما فيها من أنغام يحلو بها إنشائي ، وما فيها من ألوان و زهور و بنين و نساء ، فهل يحب القلب ويكره في آنٍ واحد نفس الاشياء ؟
– أخرج من قلبك وَهَنَاً ،
حُبَ الدنيا و إلا أرداك ،
أخلص في العشق لربك
فلن يُنجيك سوى مولاك
إعمل بالعلم فعلمُك
إن لم يوصِلُك نفاك
الجاهل في الجهل له عذرٌ
والعالم لا يملك منه فكاكا
الزم رايةَ ربك دوماً
بما يأمرك وما ينهاك
يكون الفوزُ بجنة عدنٍ
من عند الله مرامُ جزاك
– كيف لمثلي أن يبلغها
عدناً يلزمها إخلاصا
وأنا أغرق في أخطائي
ولست أُلاقي منها مناصا
-اجعل ربك في عينيك ، تراه بكل مكان ، لا يشغل قلبَك عنه ، بشر أو شيطان
اسمع مني وردد خلفي
عـَرِفْتُ الهـوى مُذْ عَرِفْتُ هـواكَ * وأغـلـقـتُ قلـبـي عـمـن سـِواكَ
وكــنت أُناجيـــكَ يـــا من تــرى ***خَـفـايـا الـقـلـوبِ ولسـنـا نـراكَ
أُحبّك حُبين؛ حبَّ الهوى * وحُبّا لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حبُّ الهوى * فشُغلي بذكرِكَ عمّن سواكا
وأما الذي أنتَ أهلٌ له * فكشفُكَ للحُجُبِ حتى أراكا
فلا الحمدُ في ذا ولا ذاك لي * ولكنْ لكَ الحمد في ذا و ذاكا
(لرابعة)
سمعت و كررت ما قالت فالتفتت قائلة
– أحبب ربك لا طمعاً في جنة ، و لا خوفاً من نار ، أحببه لأنه أهلٌ للحب ، أنعمَ نِعماً لا تُحصى ، و أعطى و زاد و وفّى ، لا تعبده ليُعطي ، أعبده ليرضى ، فإذا رضي أدهشك عطائه .
إستيقظت و في عقلي حكمة ، مادام يراني ، فبعين القلب أراه ، و مادمت أراه ، فلن أنساه ، و سأكملُ عمري و أنا آتيه ، و لن أُغضبُهُ ،و لن أَعصيه .
#