يحل شهر سبتمبر كل عام حاملاً معه رائحة خاصة؛ مزيج من دفء الصيف الذي نودعه، وبهجة بداية جديدة مع دقات الأجراس المدرسية. كان سبتمبر في الماضي يرمز إلى الجدية والتحدي، حيث كانت العودة إلى المدرسة تشبه العودة إلى ساحة معركة صغيرة، نتجهز لها بالدفاتر البسيطة وأقلام الرصاص المشرشرة بعناية. لم تكن هناك حقائب مستوردة أو “لانش بوكس” مليء بالمأكولات المتنوعة، بل قطعة من الجبن، أو ساندويتش فول أو مربى، تكفي لمنح الطفل طاقة يومه.
لكن بين الماضي والحاضر يكمن فارق لا يُقاس بالسنوات فقط، بل أيضا بالتحولات في قيم المجتمع واتجاهاته. الجيل الحالي، جيل “Z” وما بعده جيل “ألفا”، لا ينظر إلى المدرسة كمصدر للعلم بقدر ما يراها منصة للعرض؛ عرض الملابس والأدوات والحقائب التي تحمل علامات تجارية عالمية. أصبحت متطلبات المدارس أشبه بقائمة تسوق في مركز تجاري؛ حذاء رياضي من علامة معينة، مقلمة من طراز محدد، ووجبات غذائية مصممة بطريقة فائقة تفوق ما يقدم للكبار.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تعكس هذه المظاهر الفاخرة جودة التعليم؟ هل تمكنت مدارسنا، سواء كانت دولية أو عادية، من تخريج جيل أكثر علماً وثقافةً؟ الإجابة المؤلمة: “ليس كما كنا نأمل”. فما زال هناك تفاوت كبير بين ما يُنفق وما يُحقق، بين ما يُدرس وما يُستوعب، وبين ما يُزرع وما يُثمر.
ترفع وزارة التعليم شعار “التربية قبل التعليم”، لكن الواقع غالبًا ما يتعارض مع ذلك. نجد أجيالاً تتعلق بالمظاهر وتستهلك قبل أن تنتج، ولا تشعر بقيمة الأشياء لأنها تحصل عليها بسهولة، ولا تتذوق حلاوة النجاح لأنها اعتادت على أن يُيسر لها الطريق. أصبح الطفل يسأل والديه إن لم يحضرا له الحقيبة ذات “الإصدار الأخير”، بينما يجهل قيمة الكتاب الذي بيده أو أهمية الكتابة بخط واضح وصبر.
اللغة العربية، رمز الهوية، أصبحت غريبة على ألسنة الصغار، يحل محلها كلمات أجنبية كأنها تذكرة عبور إلى “العصرية”. لم يعد فخر الطفل هو إلمامه بقراءة قصيدة لأحمد شوقي، بل بنطقه كلمات أجنبية بلكنة تشبه نجوم السينما. هنا تتضح الأزمة، فنحن لا نفقد مادة تعليمية، بل نفقد روح أمة.
قال طه حسين ذات مرة: “التعليم كالماء والهواء”.. عبارة رائعة تلخص فلسفة التعليم كحق أصيل، لا سلعة تزين واجهات المدارس أو وسيلة للتفاخر الاجتماعي. التعليم الحقيقي هو الذي يُنتج إنسانًا يمكنه التفكير والنقد والإبداع، لا إنسانًا يُقيم ذاته بعدد المتابعين على “تيك توك” أو نوع حذائه المدرسي.
إن خطورة الوضع لا تكمن فقط في إهدار الموارد المالية، بل في تربية أجيال لا تعرف قيمة البذل والاجتهاد. جيل يُربى على الاستهلاك سيظل محاصرًا بالمظاهر، فاقدًا القدرة على مواجهة تحديات الحياة. التربية الصحيحة ليست في اختيار أفضل “لانش بوكس”، بل في غرس معنى القناعة والاعتزاز بالهوية، وتعليم الطفل أن قطعة من الخبز بعرق الجبين أغلى من وجبة فاخرة تصل بلا جهد.
رسالتنا اليوم أن نتذكر أن التربية مسؤولية مشتركة بين المنزل والمدرسة، بين الأب والأم والمعلم. إذا لم نغرس في قلوب أبنائنا قيمة الصبر والجد والاجتهاد، فكل ما ننفقه سيضيع بلا قيمة. يقول أحمد شوقي: “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”. فلنحرص على غرس الأخلاق في جيلنا، ليظل التعليم نورًا يضيء الطريق، وليس مجرد شعار يتكرر في كل سبتمبر.