د جودة عبدالخالق يكتب

يصيبنى الدوار كلما سمعت تصريحات المسئولين عن الأسعار. نعم، فمن أكبر كبير إلى أصغر صغير، كل كلامهم ما هو إلا ضجيج بلا طحن. فموجات الغلاء الجارفة وتسونامى الأسعار أصبحت مثل “المقدر والمكتوب”؛ لا فكاك للمواطن منه. ولكن الواقع يشير إلى أن هناك “لعبة أسعار” يجرى بموجبها توزيع الأدوار بين الحكومة والتجار: الحكومة “تجتمع” مع التجار و”تطالبهم” بالقيام بمبادرات لتخفيض الأسعار. والتجار “يؤيدون” مبادرات الحكومة بدلا من عمل شيء حقيقى لتخفيض الأسعار. وبين الاجتماعات والمطالبات والتصريحات يتوه المواطن المطحون ويتفرق دم الغلاء بين القبائل. لكن الحقيقة الساطعة أن الحكومة غير معنية بمواجهة التضخم لعدة أسباب. الأول، أن التضخم وسيلة سهلة لتخفيف عبء الدين العام (inflating out of debt). والثانى، أن التضخم يعيد توزيع الدخل لصالح الأغنياء الذين يسيطرون على البرلمان. والثالث، أن الغلاء يضمن انشغال الناس بلقمة العيش وانصرافهم عن السياسة والشأن العام. إن التضخم هو جزء من ماكينة للطرد المركزي تحدث استقطابا هائلا في المجتمع ينتج عنه انقسامه إلى مجتمعين متخاصمين: مصر و Egypt. ولا يخفى على لبيب دلالة ذلك بالنسبة للاستقرار والأمن القومى.
المشكلة أنه بدلا من المباشرة بتنظيم الأسواق وضبط الأسعار، اختزلت الحكومة الموضوع في مبادرة. مجرد مبادرة. يعنى لا سياسة ولا منطق اقتصادي ولا حقوق مواطنين ولا يحزنون. وأصبحت الحكومة في موقف يثير الشفقة، حيث نراها تتسول على استحياء موافقة التجار للتنازل عن جزء من هامش الربح لتخفيض الأسعار. ولوضع الأمور في نصابها، نتساءل: لماذا ترتفع الأسعار عندنا بهذه المعدلات المجنونة؟ والإجابة هي: هناك عدة أسباب أهمها:

(1) تعويم الجنيه انصياعا لأوامر صندوق النقد الدولى.

(2) إفراط البنك المركزى فى طبع النقود استجابة لطلب الحكومة لسد عجز الموازنة.

(3) مغالاة الحكومة في جباية مختلف الرسوم والإتاوات.

(4) الرفع المتكرر لأسعار المنتجات البترولية تلبية لأوامر الصندوق.

(5) الاعتماد المفرط للإنتاج والاستهلاك والاستثمار على الواردات.

(6) عربدة المحتكرين والاحتكارات. ناهيك عن القفزات المنتظرة في أجرة المساكن في ظل القانون الجديد 146 لسنة 2025.
يذكر أن الحوار الوطنى في المحور الاقتصادى أوصى الحكومة منذ مارس 2024 باتخاذ إجراءات عدة للإصلاح الاقتصادى. وتضمنت التوصيات إجراءات عاجلة لمعالجة ارتفاع الأسعار ورفع المعاناة عن المواطن المصرى.

(أ) تثبيت الرسوم الإدارية والخدمات الحكومية (مثل المياه والكهرباء والغاز، الخ) لمدة عام، وإعادة النظر في منهجية احتسابها لتجنب المغالاة فيها.

(ب) تفعيل قرار تدوين الأسعار على السلع، التزاما بالقرار الوزاري الصادر في هذا الشأن.

(ج) تنفيذ مبادرة لإتاحة وضبط أسعار مجموعة من السلع التي تغطي نسبة كبيرة من احتياجات المواطن اليومية (مثل الخبز، والدواجن، والألبان، والبيض، والأرز، وأدوية الأمراض المزمنة).

(د) تطوير وتفعيل آلية تتبع السلع من المنتج إلي المستهلك للقضاء على الوسطاء والاختناقات في سلاسل الإمداد.

(ه) تفعيل دور جهاز حكاية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية وجهاز حماية المستهلك في تنظيم الأسواق وضبط الأسعار. إضافة الى إجراءات أخرى للمدى المتوسط والطويل. مهم أن يطلع الناس على توصيات الحوار الوطنى للاصلاح السياسى والاقتصادي والاجتماعى في كتاب أقوم الآن بإعداده، وأتمنى أن يرى النور في أقرب وقت.
لكن الحكومة لم تُعِرْ تلك التوصيات أي اهتمام، وفضلت أن تستعطف التجار للتنازل عن جزء من هوامش ربحهم للتخفيف عن كاهل المستهلكين! إنه لمن المدهش حقا أن نسمع رئيس الوزراء يشكو من استمرار ارتفاع الأسعار رغم التحسن الإيجابي في المؤشرات الاقتصادية، ويطالب بضرورة توفير الأسباب التي تدفع نحو مسار نزولي للأسعار،

قائلًا: “كما زادت الأسعار في فترات سابقة نظرًا لتحديات واجهناها، يجب أن تنخفض الآن”. والسؤال: يشكو لمن؟، ويطالب من؟ ولمن يتشدقون بالعرض والطلب تذكيرا بموقفى عندما كنت وزيرا للتموين عام 2012 عندما هددت المحتكرين والمتاجرين بأقوات الشعب بأقسى أنواع العقوبة إن لم يتراجعوا عن ممارساتهم الاستغلالية

 

(والتفاصيل كثيرة في كتابى “من الميدان الى الديوان”).

كما أذكِّر أيضا بالموقف الحاسم للرئيس الأمريكي جون كيندى عام 1962 حينما هدد شركات الصُّلب بإجراءات صارمة إذا لم يتراجعوا عن الرفع الذى اتفقوا عليه في أسعار الصلب.

وقد كان، وتراجعت الشركات. كما أننا نقرأ في كتاب المقريزى “إغاثة الأمة بكشف الغمة” عن أن أحد حكام مصر من المماليك في القرن التاسع الميلادى (يعنى منذ 12 قرنا) قام بحبس التجار الذين كانوا يتلاعبون بالأسواق وإخراج البضائع من مخازنهم وطرْحِها في الأسواق!

Loading

By عبد الرحمن شاهين

مدير الموقع الإلكتروني لجريدة الأوسط العالمية نيوز مقدم برنامج اِلإشارة خضراء على راديو عبش حياتك المنسق الإعلامي للتعليم الفني