✍️ بقلم الكاتب والسياسي سيد الأسيوطي
“هل ما نراه بين أوروبا وواشنطن خلاف استراتيجي حقيقي، أم مجرد مسرحية كبرى لإعادة توزيع الأدوار؟” هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه بقوة على المشهد السياسي الدولي، حيث لم تعد الساحة خالية من المفاجآت ولا من تناقضات تكشف عمق لعبة المصالح بين الحلفاء الغربيين.
من جانب، هناك ملامح خلاف حقيقي لا يمكن إنكاره. أوروبا تعاني من أعباء العقوبات على روسيا ومن الهيمنة الأمريكية على مصادر الطاقة، بينما يسعى قادة القارة العجوز ـ خاصة في فرنسا وألمانيا ـ إلى استعادة قدر من الاستقلالية والظهور بمظهر القوة الدولية الفاعلة. الضغوط الداخلية تتزايد، والشعوب الأوروبية لم تعد راضية عن التبعية المطلقة لواشنطن. هذا الواقع يفرض على الساسة الأوروبيين أن يُظهروا شيئًا من التمرد والاختلاف.
لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل أن الغرب تاريخيًا يعرف كيف يوظّف الخلافات ويحوّلها إلى أوراق تفاوض وضغط. واشنطن تُجيد دور المتشدد، وتترك لحلفائها الأوروبيين مساحة لارتداء ثوب الوسيط أو المعتدل، في توزيع دقيق للأدوار يهدف إلى تحقيق أكبر مكاسب ممكنة. هكذا تُدار الصراعات: أمريكا تُمسك بزمام آسيا والمحيط الهادئ، بينما تتقدم أوروبا في أفريقيا والشرق الأوسط، في مشهد أقرب إلى التنسيق منه إلى الانقسام.
وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل التصريحات الأوروبية المتكررة حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية. فقد أعلنت كل من إسبانيا وإيرلندا والنرويج في مايو 2024 اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، وتبعتها أصوات أوروبية أخرى طالبت بالخطوة ذاتها. تصريحات كثيرة ومثيرة، لكنها في أغلبها تبدو للاستهلاك السياسي وتهدئة الرأي العام العربي والدولي، أكثر من كونها خطوات عملية على الأرض. فالواقع أن السياسات الأوروبية لا تزال عاجزة عن فرض أي إلزام على الكيان الإسرائيلي، الذي يواصل مخططه التوسعي الناجح حتى الآن في غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان. إنها ورقة جديدة في لعبة المصالح، حيث تسعى أوروبا إلى تحسين صورتها أمام العالم عبر خطاب حقوقي وإنساني، بينما تظل النتائج على الأرض خاضعة للحسابات الإسرائيلية والأمريكية.
الأوروبيون يدركون أن القضية الفلسطينية تمثل مفتاحًا للرأي العام العربي والإسلامي، وأن توظيفها سياسيًا يتيح لهم مساحة أوسع للحركة في المنطقة. التصريحات بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية تمنح أوروبا قدرة على الحفاظ على حضورها السياسي في الشرق الأوسط، وتُستخدم أيضًا كورقة ضغط تفاوضية في علاقاتها مع واشنطن وتل أبيب، فضلًا عن كونها أداة لتأمين مصالحها الاقتصادية والتجارية مع العالم العربي. وهكذا يتحول الملف الفلسطيني إلى جسرٍ بين الشعارات والمصالح في الاستراتيجية الأوروبية.
وفي خضم هذه التطورات، لا يمكن إغفال ما دار في بعض اللقاءات المغلقة التي جمعت الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب بملك بريطانيا، إلى جانب عدد من الشخصيات الدولية المعروفة تاريخيًا بدعمها لإسرائيل. هذه اللقاءات، التي وُصفت في دوائر إعلامية بأنها أشبه بمحادثات نخب مغلقة، أثارت تساؤلات واسعة حول طبيعة التشابك بين السياسة الرسمية وشبكات النفوذ العالمية، بل وترددت تكهنات حول ارتباط بعضها بالمحافل الماسونية ذات الحضور التاريخي في صياغة السياسات الكبرى. ورغم أن تفاصيل هذه الاجتماعات لم تُكشف كاملة، إلا أن مجرد تداولها يعكس عمق التشابكات الخفية التي تتحكم في مسار الصراعات، وتؤكد أن لعبة المصالح ليست حكرًا على أوروبا وواشنطن فحسب، بل تمتد لتشمل دوائر أوسع من مراكز القوى العابرة للحدود.
الحقيقة إذن ليست في الخلاف وحده ولا في المسرحية وحدها، بل في مزيج معقد من الاثنين. هناك مصالح متناقضة تدفع أوروبا إلى البحث عن متنفس مستقل، لكن في الوقت نفسه هناك استراتيجية غربية موحدة تفرض على الجميع البقاء تحت مظلة واحدة عند اللحظات المصيرية. والمشهد الحالي ينذر بمزيد من التعقيد، فأوروبا لن تنفصل كليًا عن الولايات المتحدة، لكنها قد تستمر في البحث عن هامش مناورات يضمن لها مصالحها الخاصة، خاصة في ملفات الطاقة والعلاقات مع آسيا وأفريقيا. ومن المتوقع أن نشهد جولات جديدة من الخلافات الشكلية، لكن مع كل أزمة كبرى سيظهر الاصطفاف الغربي الموحد من جديد.
وما نراه ليس انفصالًا بين ضفتي الأطلسي بقدر ما هو إعادة صياغة للأدوار. خلافات تُدار بذكاء، وصراعات تُستثمر بعناية، والنتيجة أن أوروبا قد تبدو متمردة في العلن، لكنها في النهاية تعود إلى البيت الأمريكي الكبير. ووسط هذه اللعبة الكبرى، يظل الأمل أن تمتلك منطقتنا العربية القدرة على قراءة المشهد بعمق، وأن تدرك أن قوتها الحقيقية تكمن في الوحدة والاستقلال عن مسرحيات القوى الدولية، لتفرض حضورها على الساحة العالمية كطرف فاعل لا مجرد متلقٍ للقرارات.
حفظ الله الوطن، وتحيا مصر، وتحيا الأمة العربية بوحدتها دائمًا وأبدًا، رغم أنف المفسدين والحاقدين والمتربصين.