عبدالحليم قنديل
قد يبدو غريبا أن نتحدث عن مقاومة لن تموت ، بينما الدنيا كلها تتهدم من حول المقاومة اللبنانية والفلسطينية ، وتنقطع عنها خطوط الإمداد بعد أحداث سوريا الأخيرة، ويجرى فرض الشروط الأمريكية والغربية عموما ، والسعى لإلحاق سوريا بكيان الاحتلال ، وبأبعد من توقع حدوث التطبيع العادى أو “السوبر” ، ويعلن من بيدهم الأمر فى سوريا اليوم ، أنهم لا ينوون الدخول فى حرب مع “إسرائيل” لا فى الحال ولا فى الاستقبال ، وتقول أصوات زاعقة موالية على وسائط التواصل الاجتماعى ، أن أحدا فى سوريا لن يطالب بعد اليوم حتى بتحرير الجولان المحتل ، ناهيك عن ما جرت إضافته من مناطق جديدة شاسعة احتلتها “إسرائيل” فى ثلاث محافظات سورية جنوبية ، مع التدمير الكامل للجيش السورى برا وبحرا وجوا ، وتلاحق احتفالات الأيام و”الليالى الملاح” ، التى يتسابق إليها رئيس وزراء العدو “بنيامين نتنياهو” وعسكره وحاخاماته من فوق قمة “جبل الشيخ” المطلة من الأعالى على دمشق نفسها .
وقد لا يكون من حق أحد خارج سوريا الحبيبة ، أن يفتى فى شأن يخص الشعب السورى وحده ، وقد عانى الأمرين فى ظل حكم الأسد الأب والإبن ، ودخل فى محنة كبرى خلال العقد الأخير بالذات ، وإن كنا نثق فى حكمة ووجدان ووعى السوريين ، ومقدرتهم ـ بإذن الله ـ على عبور مخاطر قديمة ومستجدة ، ومهما طال الزمن واستحكمت المآسى ، فسوريا كانت وستظل قلب العرب النابض ، والكلمة الأخيرة ستكون لشعبها بالتأكيد ، وإن كان الواقع المنظور فى سوريا وفى ساحات عربية مجاورة ، يحيط جماعات المقاومة لكيان الاحتلال بحصار وتضييق غير مسبوق ، أول عناوينه افتعال وإشعال حروب الفتن بين السنة والشيعة ، والعودة بالتاريخ قرونا إلى الوراء ، وتكفير فئة أو أخرى من المسلمين باستدعاء أوصاف “النواصب” و”الروافض” ، وكأن بوسع أى مسلم صحيح الإيمان ، أن يشكك فى إسلام الإمام على وسيدنا الحسين سبط النبى الأكرم ، أو أن يشكك فى إسلام “أبو بكر” و”عمر بن الخطاب” رضى الله عنهما ، ناهيك عن نصب المشانق باسم الانتصار لسيدنا “على” أو سيدنا “عمر بن الخطاب” ، فليس فى الإسلام وساطة ولا طبقة وصاية من رجال دين ، وتعاليم الإسلام وقيمه متاحة للكافة ، ولا يصح أن تكون مجالا لخلاف مفتعل غالبا ، تغذيه جماعات تطلب مغانم الدنيا لا ثواب الآخرة ، فكل طائره فى عنقه ، وقطع الأعناق تعسفا حرام ، سواء جرى بحق المسلمين أو لغيرهم ، وترديد صيحة “الله أكبر” مع كل مقتلة ، لا يمحو الذنوب ولا الخطايا والكبائر ، وفتنة حروب الشيعة والسنة لا تخدم أحدا سوى أمريكا و”إسرائيل” بالذات ، وقد كان قادة المقاومة الجديدة فى الأربعين سنة الأخيرة ، أحرص الناس على وقف هذه الحروب المدنسة ، وهو ما بدا فى خطابهم العام من “حسن نصر الله” إلى “يحيى السنوار” ، ونحسبهما معا عند الله من خيرة الشهداء ، كان “السيد حسن نصر الله” دائم التحذير من فتن الشيعة والسنة ، وإن تورط حزبه فى بعضها بأوزار السياسة ، وكان “السيد حسن” يحمل بشدة على عادات بعض المتشيعين الموروثة ، ويحرم ويجرم سب الصحابة أو الإساءة للسيدة عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين ، ويرى فى هذه الرذائل عمالة مباشرة لكيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، ويرى فى “أمريكا” وطغيانها أسوأ المنكرات ، وكذلك كان كل المخلصين لهذه الأمة وعقيدتها ، فما خلق الله لرجل من قلبين فى جوفه ، والانشغال فوق الطاقة بخلافات المذاهب ، مما يضيع على الأمة فرص النهوض ومقاومة عدوها ، وقد رأينا نماذج مهلكة من المدعين بإحياء الخلافة أو الإمامة معا ، ورأينا إهلاك مئات ألوف الناس ـ ربما الملايين ـ بدعوى المغالين فى صحة إيمانهم ، ومن دون أن يدركوا أو أدركوا ، أن تكفير الناطق بالشهادتين أعظم المنكرات ، فوق أنه ينفذ سياسة “فرق تسد” ، التى ترعاها قوى الاستعمار الغربى قديما وحديثا ، وإشاعة الفرقة الدينية أخطر ما يعيق إجماع الأمة على خط المقاومة ، وبدعاوى ضالة ، من نوع “حرب العدو القريب” الأولى من “حرب العدو البعيد” ، مع أن كيان الاحتلال وظلمه أقرب إلينا من حبل الوريد ، والإمعان فى حروب وفتن الشيعة والسنة يقطع أهم خطوط الإمداد المعنوى لجماعات المقاومة ضد “إسرائيل” ، وربما يتخطى أثره السئ قطع خطوط الإمداد الأرضية ، وعلى نحو ما جرى ويجرى اليوم ، وبدعوى التخلص من النفوذ “الإيرانى” الشيعى ، مع أن إيران لا تضار بفتن الدين ، ولا بفتنة الشيعة والسنة ، وقد استفادت فى بسط نفوذها بهذه الفتن المفتعلة وحملات تكفير الشيعة ، التى أنفقت فيها مئات المليارات من الدولارات ، وسبب الاستفادة الإيرانية ظاهر جدا ، فإيران كيان متعدد القوميات ، والقاسم المشترك الأعظم بين قومياتها هو “التشيع الإثنى عشرى” لا الرابطة القومية الفارسية ، وتقدمها بصورة الحامية للشيعة ، يضيف إليها تعاطف وولاء عشرات الملايين من الشيعة العرب بالذات ، بينما الفتن الدينية عموما تمزق نسيج المجتمعات العربية ، وهو ما حدث ويحدث للأسف ، خصوصا فى مجتمعات المشرق العربى مفرطة التنوع الطائفى ، وما من شك ، أن إيران غنمت الكثير من النفوذ على حساب العرب ، لا لشئ ، سوى أن مشروعها نما وتطور فى غياب وتوارى أى مشروع عربى جامع ، وليس بوسع جماعات التكفير ، أن تقدم مشروعا لنهوض ، ولم يلحظ أحد لها جهدا مقاوما بأى معنى على جبهة الصراع ضد “إسرائيل” ، بينما بدت إيران ـ للمفارقة ـ فى الموقع المعاكس ، ورأت أن ضمان مصالحها القومية فى دعم جماعات المقاومة العربية بلبنان وفلسطين ، واستفادت من خلاء موحش على الصعيد العربى الرسمى ، وتوالى صور التدهور الكارثى فيه ، فلم تقدم أى دولة عربية قطعة سلاح ولا طلقة رصاص للمقاومين الصادقين ، فى الأربعين سنة الأخيرة ، سواء كانوا من الشيعة فى “حزب الله” ، أو كانوا من السنة فى “حماس” أو “الجهاد الإسلامى” أو حتى “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” وغيرها ، بل شهدنا أدوارا لأغلب الحكام العرب بين متخاذل أو مطبع أو محالف لكيان الاحتلال ، وكلهم فى نار الدنيا قبل عذاب الآخرة .
والمؤكد أن قطع خطوط الإمداد بالسلاح الإيرانى يضعف المقاومة ، لكنه فيما نظن لا ينهيها ، ولا يوجه لها الضربة القاضية ، وقبل نحو عشر سنوات أو تزيد ، وجهت سؤالا لأحد قادة المقاومة الفلسطينية عن أثر انقطاع الدعم الإيرانى إن حدث ، وكان رده ببساطة “نحن فى موقع الشمس لا فى مدار القمر” ، وقصد أنهم يستمدون طاقة وجودهم واستمرارهم من الشعب لا من الحلفاء ، بدا الرد وقتها بليغا مقنعا ، ويبدو أكثر إقناعا الآن ، سواء تعلق الأمر بحركة “حماس” وأخواتها ، أو بجماعة “حزب الله” ، ربما لسبب ظاهر فى التاريخ المرئى لعقيدة وأساليب عمل المقاومة الجديدة ، وفى تاريخها المشهود على مدار أربعة عقود خلت ، فقد كانت طاقة الروح لا طاقة السلاح هى الأساس فى ميلاد هذه المقاومة ، ودخولها فى مباراة حربية فريدة مع كيان الاحتلال وجيشه المتفوق تكنولوجيا ، أدارت حروبها الأولى بقيمة الاستشهاد ـ كأعلى قيمة إنسانية ـ فى مواجهة أعلى فوائض القيمة التكنولوجية التى يملكها الغرب المعادى ، وأثبتت الحوادث ، أن بوسع القيمة الإنسانية الإيمانية ، أن تهزم التفوق التكنولوجى ، أكثر من ذلك ، كان بوسع قيمة الاستشهاد الإنسانية أن تكتسب قيما تكنولوجية حربية متحدية ، بينما عجز التفوق التكنولوجى المعادى ، أن يكتسب ما يوازى الأثر الهائل لقيمة الاستشهاد ، وهو ما أبرزته معارك القتال المتلاحم الجارية منذ بدء “طوفان الأقصى” ، وظهر فيها المقاتل المقاوم بكفاءة مذهلة ، بدا فيها الحس الاستشهادى مشفوعا بالتدريب والمثابرة المتقنة ، وبوسائل فعالة لإدارة الحروب غير المتناظرة ، التى لا يكتب فيها النصر أبدا للعدو ، رغم التفاوت الرهيب فى حساب القدرات المادية والتكنولوجية وطاقة النيران الجهنمية ، التى أحرقت البشر والحجر والشجر ، لكنها لم تستطع إرغام جماعات المقاومة أبدا على إعلان الاستسلام ، ولا التوقف عن التصنيع الذاتى للسلاح ، بما اكتسبته المقاومة من خبرات ، وتطويرها لشبكات الأنفاق المعقدة فى “غزة” وفى “لبنان” ، وهو ما يؤكد مجددا ، أن قطع خطوط الإمداد الأرضية بالسلاح لا ينهى المقاومة ، رغم ما يعنيه من مشاكل مضافة ، فهناك دائما حلول بديلة ، بينها تهريب السلاح من مخازن العدو نفسه ، وإعادة تدوير قذائفه غير المنفجرة ، وتوليد أجيال المهندسين والخبراء من شباب المقاومة ، وبها وبغيرها ، توالى شمس المقاومة شروقها ، ما دام الاحتلال والعدوان قائما ، حتى فى سوريا الجديدة نفسها ، فللحرية الحمراء باب / بكل يد مضرجة يدق .
KANDEL2002@HOTMAIL.COM