عملاق الكوميديا، أضحك الملايين بابتسامته الساحرة ومواهبه الفذة، لكن خلف كل ضحكة يطلقها الفنان الراحل إسماعيل ياسين توجد قصة كفاح وتحديات واجهها في حياته، إذ كشف في مذكراته جانبًا آخر من حياته، جانبًا مليئا بالألم والمعاناة، قبل أن يصبح أيقونة الكوميديا في مصر والعالم العربي.
فمنذ طفولته، كان إسماعيل ياسين يحلم بأن يصبح فنانًا مشهورًا، هرب من مسقط رأسه السويس إلى القاهرة، حاملًا معه حقيبة أحلامه، لكن الواقع كان قاسياً، فقد وجد نفسه وحيدًا في مدينة كبيرة بلا مال ولا مأوى بعدما أنفق كل الأموال التي كانت بحوزته.
من الشارع إلى النجومية
يروي إسماعيل ياسين في مذكراته المنشورة بمجلة الجيل عام 1953، كيف اضطر إلى النوم في المساجد، وكيف اتهمه البعض بالسرقة ظلماً، تلك التجربة المريرة شكلت شخصيته وأثرت في فنه لاحقًا، فمن خلال الكوميديا، كان يعبّر عن آلامه ومعاناته، ويقدم للناس الفرح والسعادة.
يقول: «أذكر جيدا اليوم الذي طردوني فيه من ضريح السيدة، طردني رجل غليظ القلب ما زلت أحس بأثر قبضته الحديدية على كتفي، وهو يركلني أمامه وأنا أجري إلى الطريق، كان ذلك بعد صلاه العشاء، ثم قادتني قدماي إلى جامع بحي السيدة، تسللت إلى داخل الجامع من مدخله الخلفي وارتميت بجسدي المنهك الهزيل تحت أحد حوائطه، واستعنت على الجوع بالنوم، نمت لأحلم بأن أمامي طعاما وأنني أستطيع أن أكل حتى أشبع، كان هذا هو الحلم الوحيد الذي أتمنى تحقيقه في كل لحظه وأمعائي تتلوى، ثم قمت مذعورا عند الفجر، لا من هذا الحلم اللذيذ ولكن من ضربة حذاء.. وأين؟ في بطني الخاوية».
وقعت يا حرامي
ظن إسماعيل للوهلة الأولى أنَّ الرجل يحاول إيقاظه لطرده خارج المسجد، قبل أن يجد مفاجأة غير سارة في انتظاره: «قمت، وإذا بي أرى أمامي رجلا بشع المنظر يصرخ في من حوله مشيراً إليّ «أهو ده اللي سرق امبارح طقم الشاي، هو بعينه»، وهجم عليّ من حوله، وهم يتنافسون في لطم وجهي «فين طقم الشاي يا حرامي، تسرق وتبات في الجامع يا لص؟»، وهكذا اتهموا ظلما شابًا شردته الأقدار واحتمى من قسوة المجتمع ببيت من بيوت الله، ولم يكن أمامي إلا أن أبكي متوسلا إليهم «أنا مظلوم أنا مش حرامي، حرام عليكم» وصمموا على اقتيادي إلى قسم البوليس، ووضح مصيري أمامي، أكثر من 10 رجال يشهدون على أنّي سارق، فلا مفر إذا من السجن، وهكذا سينتهي بي كفاحي الشريف في سبيل مستقبلي إلى أن أصبح مجرمًا على الرغم مني.
تدافعت الأفكار في رأس إسماعيل، وكيف سيكون مصيره، وبينما يدعو الله أن يخرجه من تلك الأزمة التي وجد نفسه متورطا بها وهو برئ، وجد رجل كبير يتقدم للجمع ويؤكّد أنَّ إسماعيل لم يسرق وأنه مظلوم، واستجاب الأهالي للرجل الكبير، الذي استمع إلى قصته، وشدد عليه بضرورة العودة إلى السويس، فيما جمع له من المصلين بالمسجد 32 قرشًا وصحبه إلى محطة القطار وقطع له تذكره بالدرجة الثالثة.
يصف الكوميديان الكبير تلك اللحظة وهو يقول: «سالت الدموع على وجهي والقطار يتحرك من القاهرة، ولأول مرة في حياتي أحسست بأن في الدنيا خيرا وأن فيها أبرارا وأن الخالق يرعى عبده الضائع، المهم وصلت إلى السويس وقفزت من القطار إلى رصيف المحطة، وأنا أجري إلى الشارع متلهفًا على رؤية والدي، بحثت عنه في محله القديم فلم أجده وقيل لي إنّه انتقل إلى محل آخر، وكانت صدمة عنيفة عندما رأيته يعمل بيديه على ترابيزة حقيرة، وهكذا انتهى إلى هذا المصير بعد أن كان صاحب محل محترم يعمل فيه صنايعية من القاهرة، إن صدمة هروبي من السويس وغيابي بضعه أشهر ثم مرضه هدت من كيانه، وجعلته جسدًا بلا روح، هكذا قال لي وهو يضمني إلى صدره في حنان، ودموعه تتساقط على رأسي».