تحل ذكرى المولد النبوي الشريف أو مولد الرسول، وهو اليوم الذي ولد فيه النبي محمد بن عبدالله، خاتم الأنبياء والمرسلين، في 12 ربيع الأول، في الذكرى التي يحتفل بها المسلمون في كل عام، ليس باعتباره عيدًا أو عبادة، بل فرحة بولادة نبيهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تبدأ الاحتفالات الشعبية من بداية شهر ربيع الأول إلى نهايته.
وهذا العام، أعلن المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية عن موعد المولد النبوي الشريف، والذي سيوافق الإثنين، 16 سبتمبر 2024، الموافق 12 ربيع الأول 1446 هـ.
ولكن، ما حكم صيام يوم المولد النبوي الشريف؟
ردت دار الإفتاء المصرية على هذا السؤال بأنه مِن جملة الأمور التي يُشرَع فعلها احتفالًا بهذه المناسبة العظيمة، صيام يوم مولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك أنَّ الشارع قد حثَّ على الصيام على جهة الإطلاق ورغَّب فيه، وجعل صوم التطوع مندوبًا إليه إلا ما استثناه بالنص عليه، وعظَّم أجره وثوابه، بل أفرد للصائمين بابًا من أبواب الجنة لا يدخل منه أحدٌ إلا هُم.
وعلى هذا تواترت الأخبار، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ؛ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي” أخرجه مسلم في “صحيحه”.
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ” أخرجه الشيخان.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: “مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إِلَّا بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا” أخرجه مسلم في “صحيحه”. وقوله: “فِي سَبِيلِ اللهِ”: “أي: في طاعته، يعني قاصدًا به وجه الله تعالى، كما قال الحافظ السيوطي في “شرحه على صحيح مسلم” (3/ 234، ط. دار ابن عفان).
ومِن المقرر أنَّ الأمر المطلق يصح إيقاعه على أيِّ وجهٍ كان؛ فالأمر فيه واسعٌ، وإذا شرع الله سبحانه وتعالى أمرًا على جهة الإطلاق وكان يحتمل في فعله وإيقاعه أكثرَ مِن وجهٍ، فإنه يُؤخَذ على إطلاقه وسعته، ولا يصح تقييده بوجهٍ دون وجهٍ إلَّا بدليل، وإلا كان ذلك هو الابتداع في الدين بتضييق ما وسَّعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وصيامُ يوم مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الخصوص مشروع من حيث الأصل بما تواردت عليه النصوص الشرعية؛ شكرًا واحتفاءً بمولده صلى الله عليه وآله وسلم، حيث ورد الأمر الشرعي بالتذكير بأيام الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: 5]،
ومِن أيام الله تعالى: أيامُ الميلاد، إذ تجلَّت فيها نعمة الإيجاد، وأعظمها يوم ميلاد النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يصوم يوم عاشوراء ويأمر بصيامه شكرًا لله تعالى على نجاة أخيه سيدنا موسى عليه السلام.
فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: “أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صيامًا يومَ عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟” فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومَه، وغرَّق فرعونَ وقومَه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ”، فصامه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ” أخرجه الشيخان.
وفي رواية: أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: “وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجُودِيِّ، فصام نوحٌ وموسى شكرًا لله” أخرجه الإمام أحمد في “المسند” مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وإذا كان الشكرُ بصيام اليوم الذي نجَّى الله فيه سيدنا نوحًا عليه السلام ونصر فيه سيدنا موسى عليه السلام مستحبًّا؛ فإنَّ صيام اليوم، الذي ولد فيه خير البشر أرغبُ وأولى بالصيام مِن غيره، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد كرّم يوم الولادة في كتابه وعلى لسان أنبيائه وأصفيائه، فقال سبحانه في حق سيدنا عيسى عليه السلام: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾ [مريم: 15].
وقال جلَّ شأنه على لسان السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم: ﴿وَالسَّلَامُ عليَّ يَومَ وُلِدْتُ﴾ [مريم: 33]، وذلك أنَّ يوم الميلاد حَصَلَت فيه نعمةُ الإيجاد، وهي سبب لحصول كل نعمة تنال الإنسان بعد ذلك، فما بالنا بيوم ميلاد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو سبب لكل خير ونعمة ننالها في الدنيا والآخرة، فكان تذكُّره والتذكير به مِن أعظم أبواب شكر نعم الله تعالى على الناس.
وقال شمس الدين السخاوي الشافعي في “الأجوبة المرضية” (3/ 1117-1118، ط. دار الراية)، والعلامة الشرواني الشافعي في “حاشيته على تحفة المحتاج” (7/ 422-423، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [سُئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن حجر عن عمل المولد.. قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت؛ وهو ما ثبت في “الصحيحين” مِن “أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدِم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم، فقالوا: هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى، فنحن نصومه شكرًا لله تعالى”.
فيستفاد منه فِعْلُ الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم مُعَيَّن مِن إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير هذا اليوم مِن كلِّ سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأيُّ نعمة أعظمُ مِن النعمة ببروز هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أنْ يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومَن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أيِّ يوم مِن الشهر] اهـ.
بل قد شرع لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصيام يوم مولده شكرًا لله تعالى على إيجاده وعظيم مِنَّتِه وحمدًا له على بعثته، مصداقًا لقول المولى الجليل في محكم التنزيل: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: 164].
فعن أبي قتادة رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئِل عن صوم يوم الاثنين، فقال: “ذاكَ يَومٌ وُلِدتُ فِيهِ” أخرجه مسلم في “الصحيح”، فهذا الحديث أصلٌ في إيذان مشروعية الصوم يوم ميلاده؛ شكرًا لله تعالى على نعمة إيجاده، والأَوْلى بالأُمَّة الاقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم بشكر الله تعالى على عظيم منَّته وكريم منحته بكل أنواع الشكر وعلى رأسها الصيام.
-أقوال العلماء في تعظيم يوم ميلاد النبي بصيامه
ونصَّ جمهور العلماء على أنه يُنْدَبُ تعظيم يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبراز الشكر له، وذلك بصيامه والإكثار مِن الذكر والدعاء والعبادة وقراءة القرآن ونحو ذلك من مظاهر الشكر والتعبد لله احتفاءً بمولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما جرى عليه عمل أهل الأمصار.
فحكى مفتي مكة المكرمة قطب الدين النهروالي الحنفي [ت: 990هـ] في “الإعلام بأعلام بيت الله الحرام” (ص: 196، ط. العامرة العثمانية) عملَ أهل مكة في زيارة موضع ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة المولد المحمدي، فقال: [ويُزار في الليلة الثانية عشر من شهر ربيع الأول كل عام، فيجتمع الفقهاء والأعيان على نظام المسجد الحرام والقضاة الأربعة بمكة المشرفة بعد صلاة المغرب بالشموع الكثيرة والمفرغات والفوانيس والمشاعل، وجميع المشايخ مع طوائفهم بالأعلام الكثيرة، ويخرجون من المسجد إلى سوق الليل، ويمشون فيه إلى محل المولد الشريف بازدحام.
وتابع: ويأتي الناس من البدو والحضر وأهل جدة وسكان الأودية في تلك الليلة، ويفرحون بها، وكيف لا يفرح المؤمنون بليلة ظهر فيها أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف لا يجعلونه عيدًا من أكبر أعيادهم] اهـ.
ثم ردَّ على المنكرين على ذلك تحت دعوى أنَّ ذلك لا يصحّ شرعًا وأنه بدعة لم تُحْكَ عن السلف، بأنه: [بدعة حسنة، تتضمن تعظيم النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر والدعاء والعبادة وقراءة القرآن، وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي سأله عن صوم يوم الاثنين: “ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ”.
فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي هو فيه، فينبغي أنْ يحترم غاية الاحترام؛ ليشغله بالعبادة والصيام والقيام، ويُظهِرَ السرور فيه بظهور سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام] اهـ.
وبناءً على ذلك، فإنَّ يوم المولد النبوي الشريف هو يوم تفضل الله تعالى به على جميع الأنام بإيجاد خير الأنام، فاستحق لذلك مزيد فضل واعتناء وإظهار أبلغ معاني الشكر والثناء لله تعالى بالإكثار من الطاعات والقربات التي من أَجَلِّها قربة الصيام، كما استحق إظهار ما لهذه النعمة من أثر في النفوس من السعادة والسرور والحفاوة والاحتفاء والاحتفال؛ إذ يزيد فرح المؤمن بمولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم على فرحه بأيِّ حدث وبكل عيد.