كتب _ عبدالرحمن شاهين
يعد هذا أعنف هجوم تشنه إسرائيل على مخيم جنين للاجئين منذ نحو عقدين.
وأسفر الهجوم عن مقتل تسعة فلسطينيين عندما طوقت القوات الإسرائيلية، بحسب تقارير، أبنية وسط عاصفة من إطلاق النار والقنابل اليدوية والغاز المسيل للدموع في المخيم المكتظ.
وقال مسؤولون فلسطينيون إن اثنين من القتلى من المدنيين، أحدهما امرأة تبلغ من العمر 61 عاما، بينما تدعي جماعات مسلحة أن السبعة الآخرين من أعضائها.
وقال الجيش الإسرائيلي إن قواته دخلت لاعتقال نشطاء في الجهاد الإسلامي، كانوا يخططون لتنفيذ “هجمات كبيرة”.
وخلال الليل، شنت إسرائيل غارات جوية في غزة، مستهدفة ما قالت إنه مصنع للصواريخ تحت الأرض تابع لحركة حماس، وذلك ردا على إطلاق صواريخ من القطاع.
التاريخ له أهمية في هذا الشأن. كنت قد زرت جنين عدة مرات خلال العام الماضي في ظل تصاعد الغارات العسكرية الإسرائيلية، ما أدى إلى اندلاع معارك ضارية بشكل متزايد مع جيل جديد من المسلحين الفلسطينيين.
كل من تتحدث إليه يروي تجاربه بمقارنات مع عمليات أبريل عام 2002، في ذروة الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
كانت إسرائيل قد شنت، في ذلك الوقت، توغلا واسع النطاق، يُعرف باسم معركة جنين، أسفر عن مقتل نحو 52 مسلحا ومدنيا فلسطينيا و23 جنديا إسرائيليا، في أعقاب حملة من التفجيرات الانتحارية الفلسطينية في إسرائيل، شارك فيها عدد من المهاجمين من المدينة.
ودُمّر جزء كبير من مخيم جنين في عام 2002، واحتل حجم الدمار، وقصص الفلسطينيين ومساعيهم لصد القوات، مساحة قي الذاكرة الجمعية هناك، وأصبح يشكل خلفية لما حدث منذ ذلك الحين.
وشنت إسرائيل، في الربيع الماضي، عملية “كسر الموجة”، وسط تصاعد الهجمات الفلسطينية بالأسلحة النارية والسكاكين التي استهدفت إسرائيليين، وهي عملية توصف بالأشد دموية منذ سنوات.
ونفذ بعض الهجمات فلسطينيون من مواطني إسرائيل، يدعمون تنظيم الدولة الإسلامية. لكن عددا منهم كانوا مسلحين فلسطينيين من جنين، بينهم رعد حازم، الذي قتل ثلاثة إسرائيليين بالرصاص في حانة في تل أبيب وقُتل في وقت لاحق على يد قوات الأمن.
وأعاد هذا تسليط الضوء على جنين مرة أخرى. وأصبحت الغارات الإسرائيلية للتفتيش والاعتقال وهدم المنازل في المدينة، ونابلس القريبة، تحدث كل ليلة تقريبا.
وقال الجيش الإسرائيلي إنه ينفذ عمليات لدرء المزيد من الهجمات، وإنه أطلق النار على مسلحين فلسطينيين استهدفوا قواته.
لكن عدد القتلى في أنحاء الضفة الغربية كان أكبر من ذلك بكثير. وعلى الرغم من أن المسلحين يشكلون نسبة كبيرة من أكثر من 150 فلسطينيا قتلوا في الضفة الغربية المحتلة العام الماضي، فإن العديد من القتلى لم يكونوا من حاملي الأسلحة، وكانوا في بعض الأحيان ضمن مجموعات تقذف الحجارة أو القنابل الحارقة باتجاه سيارات الدفع الرباعي، وفي بعض الأحيان كانوا من المارة أو مدنيين آخرين.
كما سقط بعض القتلى خلال احتجاجات أو مواجهات ضد التوسع باتجاه بلداتهم وقراهم من قبل مستوطنين إسرائيليين ممَن أقاموا بؤرا استيطانية غير قانونية.
ودأبت الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان على اتهام إسرائيل بالاستخدام المفرط للقوة، وهو اتهام تنفيه إسرائيل باستمرار.
لكن شيئا آخر تسبب في احتدام الوضع، ويفسر لماذا يخشى البعض من مزيد من الانهيار الأمني في الضفة الغربية.
كانت السلطة الفلسطينية، التي تتمتع بسلطات حكم محدودة في المدن الفلسطينية، قد فقدت السيطرة على جنين ونابلس.
وعلى الرغم من أهمية السلطة الفلسطينية، التي تعد إرث عملية أوسلو للسلام في تسعينيات القرن الماضي، إلا أن قيادتها القديمة بعيدة كل البعد عن الشارع الفلسطيني، وينظر إليها كثيرون على أنها أكثر بقليل من شركة أمن للاحتلال الإسرائيلي.
وتهيمن على السلطة حركة فتح، التي يتزعمها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهي الحركة المنافسة لحركة حماس الإسلامية.
والسلطة الفلسطينية “تُنسّق” الشؤون الأمنية مع إسرائيل، وهو ما يعني أنها تشارك معلومات بشأن بعض المسلحين، وأن قواتها الأمنية تتنحى جانبا عندما تنفذ إسرائيل مداهمات بهدف الاعتقال.
بيد أن الرئيس عباس أعلن حاليا “تعليق” التنسيق الأمني بسبب مداهمة جنين، على الرغم من أن هذا التهديد صدر كثيرا، ونادرا ما جرى تنفيذه حتى ولو جزئيا.
وبحلول أواخر عام 2021، كانت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية غير مرحب بها في مخيم جنين للاجئين والبلدة القديمة في نابلس. وبدأت تفقد سيطرتها. الأمر بدأ منذ فترة طويلة، لكن الوتيرة تسارعت عبر عدة أحداث خلال العام نفسه.
إحداها كان على إثر حرب مايو بين إسرائيل وحماس في غزة، والتي أججت عدم شعبية السلطة الفلسطينية.
وكان أحدثها حالة من الإعجاب الشعبي بستة سجناء شقوا نفقا للهرب من سجن إسرائيلي، قبل أن يُقبض عليهم في غضون أسبوعين. وكان جميع المسلحين المعتقلين من جنين، وبعضهم جنى شعبية من توغل عام 2002.
وظهر جيل جديد من المسلحين في جنين ونابلس يرفض السلطة الفلسطينية، بينما واجه مسلحو حماس والجهاد الإسلامي الاعتقال. وراحوا يسلحون أنفسهم، رابطين أنفسهم على نحو غير وثيق بالجماعات القائمة بالفعل. لكن لا يبدو أنهم يذعنون لتسلسل القيادة في هذه الجماعات.
وأطلقوا على أنفسهم اسم كتيبة جنين، وفي نابلس عرين الأسد، كما زادت القاعدة الشعبية لمتابعيهم على منصتي “تيك توك” و”تليغرام”.
وظهروا حاملين أسلحة أمريكية الصنع مهربة من الأردن، أو مسروقة ومباعة من قواعد تابعة للجيش الإسرائيلي. كثير منهم أصغر من أن يتذكروا حجم الدمار الذي حدث عام 2002، لكنهم كبار بما يكفي لاستلهام قصص منه.
وكما قال صحفي إسرائيلي ملحق بالقوات الخاصة للجيش الإسرائيلي في جنين: “هذا شيء مختلف. إنهم أناس مستعدون للقتال ومستعدون للموت”.
سمعت مرارا من سكان مخيم جنين عن استمرار الواقع المحبط، مثل تراجع فرص العمل، وقيود الاحتلال العسكري، وانعدام الثقة بالمستقبل السياسي، مع احتمال شن المزيد من الغارات العسكرية الإسرائيلية ليلا.
ويقول الجيش الإسرائيلي إنه منع هجمات على المدنيين والجنود، وقالت السلطات الإسرائيلية الخميس إن “خلية إرهابية” تابعة للجهاد الإسلامي كانت في طريقها لتنفيذ هجوم في إسرائيل. لكن لا تزال هناك مخاوف من اندلاع تصعيد أوسع.
ويصل وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى إسرائيل يوم الاثنين، في وقت تشهد البلاد احتجاجات حاشدة ضد أكثر الحكومات قومية في تاريخها. ويقول بلينكن إنه يريد “صيانة” حل الدولتين.
لكن الواقع على الأرض، إلى جانب الموقف السياسي المعلن الائتلاف الإسرائيلي الجديد، يشير إلى أنه ربما يتحدث لغة أخرى.