كتب: عبدالحليم قنديل

تنتهى الحروب غالبا بواحدة من طريقتين ، إما بالتفاوض أو باستسلام أحد الطرفين المتحاربين ، ولا تبدو أهداف روسيا فى حرب أوكرانيا قابلة لتفاوض ، وبالذات بعد تطورات الشهرين الأخيرين ، وإعلان موسكو رسميا عن ضم أربعة أقاليم أوكرانية لأراضيها ، إضافة لسيطرة روسيا على إقليم شبه جزيرة “القرم” وميناء “سيفاستوبول” منذ عام 2014 ، بينما تطلب أوكرانيا جلاء كاملا للروس عن الأقاليم الخمسة ، وهو ما يبدو طلبا عبثيا مستحيل التحقق من وجهة نظر الروس ، فالتناقض “حدى” بين الطرفين ، ويصعب تصور الوصول إلى حله بطريق التوافق والتراضى ، اللهم إلا إذا كانت من وسيلة لوقف القتال من دون رد الأراضى ، وهو ما تبدو حركة الحوادث ذاهبة إليه على أغلب الظن ، وفى مدى شهور الشتاء الحربى الزاحف على الأبواب .
وقد انتعشت أحاديث التفاوض فى الأسابيع الأخيرة ، خصوصا بعد زيارة “جيك سوليفان” مستشار الأمن القومى الأمريكى إلى “كييف” ، وحثه الرئيس الأوكرانى “فولوديمير زيلينسكى” على إبداء مرونة فى تقبل مبدأ التفاوض ، وفك حظر التفاوض مع الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” المفروض بقانون أوكرانى ، وقبل سعى “سوليفان” الملتبس ، كان بابا الفاتيكان “فرنسيس” يوجه دعوة للتفاوض والسلام ، بعد أن زاره الرئيس الفرنسى “إيمانويل ماكرون” أواخر أكتوبر 2022 ، ودعا البابا الاتحاد الأوروبى لانخراط فى عملية تفاوض روسيا وأوكرانيا ، وأكد البابا ما أسماه “حياده الكامل” و”محبته للشعبين الروسى والأوكرانى” ، بينما كان المستشار الألمانى “أولاف شولتز” يبحث عن أرضية مشتركة مع “بوتين” ، فى اتصال هاتفى أجراه مع الرئيس التركى ، سبق زيارته المثيرة لجدل أوروبى إلى العاصمة الصينية “بكين” ، ولقاء الرئيس الصينى “شى جين بينج” ، سعيا لتوطيد علاقات اقتصادية وتجارية هائلة ، وفتح السبل لتواصل مؤثر مع الرئيس الروسى ، الذى تجمعه مع الصين علاقات “شراكة بلا حدود” ، تأكدت أكثر بعد انتخاب “شى” لرئاسة ثالثة فى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى الصينى ، وبدت هذه التحركات كلها علامات على رغبات غربية فى خفض التوتر مع موسكو ، بعد أن فشلت الحملة الغربية فى ردع الرئيس الروسى ، وبعد أن بدت التطورات الحربية على أرض القتال غير مواتية لرغبات التحالف الغربى ، وبعد أن بدا هدف “هزيمة روسيا” متباعدا ، وهو ما يفسر اتجاه واشنطن لتواصل علنى وفى الكواليس مع موسكو ، وإن حرصت موسكو وواشنطن على إبداء تصريحات متقاربة المغزى ، تحصر هدف الاتصالات الجارية فى التهدئة النووية ، ومن دون التطرق كما يقول الأمريكيون إلى الوضع فى أوكرانيا ، وإن حرصت موسكو علنا على تأكيد ضرورة دمج الموضوع الأوكرانى فى النفاوض مع واشنطن ، وأن الأخيرة هى الطرف المقابل فى حرب أوكرانيا ، ومن وراء وأمام “زيلينسكى” وجيشه ، وهو مما صار معلوما بالضرورة عن حرب أوكرانيا الجارية ، وقد كانت من اللحظة الأولى حربا ذات طابع عالمى ، تواجه فيها روسيا وحدها 32 دولة فى حلف شمال الأطلطنى “الناتو” ، إضافة لدول أخرى حليفة كاليابان واستراليا وكوريا الجنوبية وتايوان وغيرها ، وقد استفرغت كل هذه الدول ما تملكه من سلاح متطور فى الميدان الأوكرانى ، وزودت جيش “كييف” وسلطتها ، بما تزيد قيمته إلى اليوم على مئة مليار دولار ، دفعت منها واشنطن النصيب الأكبر ، وبهدف معلن هو “إضعاف روسيا” وهزيمتها وربما تفكيكها ، فقد دفعت واشنطن خزائن السلاح الأوروبى إلى الانتقال إلى أوكرانيا ، وإعادة بناء الجيش الأوكرانى كلما تحطم ، ولم توفر أمريكا سلاحا مهما بلغت خطورته ، وبلغت الإشارات الرمزية أعلى ذراها ، مع إرسال “نظام ناسامس” للدفاع الجوى إلى “كييف” ، وهو النظام المنصوب للدفاع عن “البيت الأبيض” نفسه ، إضافة لمشاركات ميدانية مؤثرة ، سواء فى التخطيط للعمليات وإدارة المعارك ، أو فى الخدمات الاستخبارية من مئات الأقمار الصناعية العسكرية والمدنية التابعة لدول وشركات التحالف الغربى ، وهو ما كان سببا فى اختراقات محسوسة ، حققها الجيش الأوكرانى و”الفيالق الأجنبية” على جبهات الحرب منذ أوائل سبتمبر 2022 ، بالسيطرة على بلدات فى “خاركيف” و”دونيتسك” وشمال “خيرسون” ، بلغت فى مجموعها نحو 3% من مساحات السيطرة الروسية ، لكن الهجمات الأوكرانية المتسارعة ، بدا أنها تفقد قوة اندفاعها أخيرا ، بعد إعادة تنظيم القوات الروسية والحليفة ، مع إتمام مراحل “التعبئة الجزئية” ، وإعادة بناء خطوط دفاع أقوى ، وتحول الروس مجددا إلى الهجوم ، بعد توقف عسكرى استمر شهورا ، وهو ما بدا معه ، أن آمال التحالف الغربى تتراجع ، وأن هدف اقتناص مدينة وميناء “خيرسون” لن يتحقق بالسهولة التى تصوروها ، خصوصا مع الإنهاك الاقتصادى الغربى ، وفشل 12 ألف عقوبة غربية فى خلخلة الاقتصاد الروسى ، وارتداد أثر العقوبات على الغرب الأوروبى بالذات ، وظهور تشققات فى جدار الاتحاد الأوروبى ، دفعت ألمانيا الأكبر اقتصادا فى أوروبا إلى التصرف المنفرد ، وتخصيص 200 مليار يورو لتخفيف أثر أزمة الطاقة على مواطنيها وشركاتها ، مع إخفاق الشركاء الأوروبيين فى صياغة قرارات موحدة لمجابهة خفض إمدادات الطاقة الروسية ، وتضاعف فواتير الطاقة البديلة الموردة من أمريكا إلى أربع مرات ، وتصاعد ميل الدول الأوروبية الوازنة إلى استعادة التواصل مع موسكو ، والبحث عن سبيل لوقف الحرب ، مع غضب واحتقان زائد فى المجتمعات الأوروبية ، يدفعها إلى ضيق مرئى بفداحة تكاليف حرب أوكرانيا ، ومعاقبة الحكومات الأوروبية المتحمسة أكثر لمسايرة واشنطن ، وإلى حد بدت معه حكومات شرق أوروبا المنساقة أكثر للمحور “الأنجلوساكسونى” الأمريكى والبريطانى فى أحوال صدام مع ألمانيا نفسها ، واتهم رئيس الوزراء البولندى ألمانيا بخيانة أوكرانيا ، والسعى لوصل ما انقطع مع موسكو ، حتى لو كان الثمن هزيمة أوكرانيا ، بينما لم تعد “برلين” تحفل كالسابق بالاتهامات البولندية وغيرها ، بعد أن ارهقت الحرب اقتصادها ، وأثقلته بخسائر تزيد هذا العام على 64 مليار يورو ، ويتوقع أن تصل إلى 110 مليارات يورو فى العام المقبل ، وهو ما يعنى خسارة نحو 3% من الناتج القومى الألمانى ، وقد قدمت “برلين” كثيرا من السلاح والمعونات لأوكرانيا وللاجئيها ، وضاعف من الضيق الألمانى ، مطالبة المسئولين البولنديين لألمانيا بتعويضات عن حرب هتلر تصل إلى تريليون و300 مليار دولار ، وكلها ضغوط تدفع ألمانيا فى طريق التمرد النسبى على الإملاءات الأمريكية وتوابعها ، وطرق باب روسيا عبر الصين شريك “برلين” التجارى الأول ، فالمستشار الألمانى “شولتز” بات يدرك أن العالم يتغير ، وأن تعدد الأقطاب زاحف إلى توازنات القمة الدولية ، ويريد الرجل دورا قياديا لبلاده فى العالم الجديد ، ولم يتردد فى إعلان رأيه ، وإبلاغه حتى للرئيس الأمريكى “جو بايدن” ، الذى يخشى اتساع التمرد الألمانى ، ويريد على ما يبدو إجراء تعديلات فى مسارات التعبئة ضد الصين وروسيا ، وهو اتجاه يبدو إجباريا ، بالذات بعد ما جرى فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس بمجلسيه ، وفوز الجمهوريين بأغلبية مجلس النواب ، وتوقع تنصيب الجمهورى “كيفن مكارثى” رئيسا لمجلس النواب الجديد ، ولم يكتم “مكارثى” رأيه حتى قبل الانتخابات ، وقال أن أوكرانيا لن تأخذ مزيدا من الشيكات الأمريكية “على بياض” بعد اليوم ، وهو ما قد يعنى إعاقة لسياسة “بايدن” فى الميدان الأوكرانى ، وقبض يد الإنفاق الأمريكى على حرب أوكرانيا ، خصوصا مع تحكم الكونجرس فى التصرفات المالية للحكومة الأمريكية ، وتراجع نفوذ “بايدن” الرئاسى ودعم حزبه الديمقراطى ، وتصاعد أزمات ومآزق التضخم وارتفاع الأسعار ، ونمو نزعة حرمان أوكرانيا من عشرات مليارات الدولارات ربما يحتاجها الأمريكيون أولا ، وهو ما قد يقود واشنطن وصناع سياساتها إلى إعادة نظر فى الموضوع الأوكرانى كله ، والبحث عن طريقة لوقف الحرب ونزيفها المتصل ، ومن دون اشتراط لهزيمة روسية مستحيلة الحدوث .
والخلاصة فيما نتصور ، أن روسيا قد تكون مضطرة لمواصلة حملة الشتاء ، وإكمال السيطرة على ما تبقى من أراضى الأقاليم الأربعة الأوكرانية التى ضمتها رسميا ، مع إمكانية واردة لترك مناطق فى شمال مقاطعتى “زاباروجيا” و”خيرسون” ، خاصة أن مرسوم الضم الصادر عن مجلس “الدوما” الروسى ، لم ينص على التحديد النهائى الدقيق لمساحتى “زاباروجيا” و”خيرسون” ، وتركه لمشاورات لاحقة مع القيادات المحلية ، بينما كان النص ظاهرا على ضم “دونيتسك” و”لوجانسك” إقليمى “الدونباس” إلى كامل الحدود الإدارية ، وربما يكون ذلك تمهيدا لوقف القتال من الجانب الروسى ، ربما باتفاق ضمنى مع واشنطن يلجم أوكرانيا ، ودونما حاجة إلى تفاوض يكون “زيلينسكى” طرفا فيه ، ولا لإعلان موافقة غربية رسمية على ضم موسكو للأقاليم الأربعة ، تماما على نحو يشبه ما جرى فى واقعة ضم “القرم” قبل سنوات ، أى فرض أمر واقع مصحوب بإيقاف إطلاق النيران الروسية ، وبرسم حدود تنتهى غربا عند ضفاف نهر “دنيبرو” .

Loading

By hanaa

رئيس مجلس إدارة جريدة الاوسط العالمية نيوز