بقلم / سيد الأسيوطي
كاتب وسياسي مصري.
رئيس منتدى السلام العربي ومنسق ائتلاف احنا الشعب.

قبل أن نستعرض التاريخ المصري القديم، يجب توضيح حقيقة تواجه بعض المغالطات التي يروّج لها الجهلاء والخبثاء: هناك من يحاولون التقليل من مكانة الحضارة المصرية القديمة، ويثيرون جدلًا حول أن البيت الحرام هو أول بيت وُضع للناس على الأرض.
والحقيقة أن البيت الحرام هو أول بيت جُعل للعبادة، لا أول بيت شُيّد على وجه الأرض، وقد بناه سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد آلاف السنين من وجود الحضارة المصرية المتقدمة والمستقرة.

ونحن نذكر هذا الموضوع للتوضيح فقط، لا للتقليل من شأن أي أمة أو دولة، فنحن نكنّ كل التقدير والاحترام للدول الشقيقة والصديقة التي لها تاريخ وحضارة نعتز بها جميعًا. ولكن ما نطرحه هو ردّ علمي وثقافي على بعض ما أُثير من مغالطات حول أسبقية الحضارة المصرية.
على أن الحقيقة تبقى أن الحضارة والتاريخ المصري لا يحتاجان إلى سرد أو دفاع، فمصر كانت وما زالت علامة فارقة في مسيرة البشرية كلها.

مصر منذ أقدم العصور لم تكن مجرد أرض خصبة للمحاصيل، بل كانت مركزًا حضاريًا وبشريًا مبكرًا، مزوّدة بالمعرفة والفنون والعلوم التي جعلتها مركز علوم الأرض. لذلك اختارها سيدنا إدريس عليه السلام، الحفيد المبكر لآدم، لينشر علومه ومهاراته العلمية للإنسانية، مستخدمًا الوسائل الأنسب لنقل المعرفة بسرعة وفعالية، مستفيدًا من وجود مجتمع متعلم ومستعد لاستيعاب العلوم الجديدة.

هذا المقال يستعرض رحلة مصر من إدريس إلى نوح عليهما السلام، مسلّطًا الضوء على صمود الحضارة المصرية أمام الزمن والكوارث، وداعيًا إلى إعادة النظر في أصل الحضارة المصرية المبكرة، مؤكّدًا أن مصر كانت مهدًا للعلم والمعرفة قبل أي مركز ديني عالمي، بما في ذلك البيت الحرام.

المصري القديم بنى بيوتًا ومراكز حضارية متقنة قبل الطوفان، ما يدل على وعي حضاري متقدم. ووجود حضارة متقدمة قبل ظهور أي بيت على وجه الأرض، بما في ذلك البيت الحرام، يؤكد أن مصر كانت مركزًا حضاريًا قائمًا قبل أي مركز ديني عالمي.
هذا التقدم الحضاري أعدّ مصر لتلقي العلوم والمعارف الجديدة من إدريس عليه السلام، الذي لم يأتِ ليعلّم العمارة أو فنون البناء، فقد سبقوه فيها، بل جاء ليضع الأسس العلمية التي ستقود الإنسانية نحو حضارة أوسع وأعمق.
اختار إدريس عليه السلام مصر لنشر العلوم التي ستقود البشر نحو تطور حضاري مستدام:
الكتابة والحساب لتسجيل المعرفة ونقلها للأجيال القادمة،
والفلك والزراعة المنظمة لاستغلال الموارد الطبيعية بكفاءة،
والحرف اليدوية والمهارات العملية لتحسين حياة البشر اليومية وتعزيز قدرتهم على تنفيذ المشاريع الكبرى.
فإدريس عليه السلام لم يأتِ ليعلّم المصريين العمارة، فهم كانوا متقدمين فيها بالفعل، بل جاء ليزوّدهم بالعلوم الأساسية التي أسست لاحقًا لحضارة عظيمة.
ومن الشواهد التي تُرجّح عمق هذه المرحلة الحضارية ما نراه في الأهرامات، التي يُرجّح أنها كانت موجودة كمراكز للطاقة وشعلة للنور للعالم قبل الطوفان، مما يعكس ذكاء المصريين القدماء في الهندسة والفلك.
وصمود هذه العمارة يعكس قدرة الحضارة على تجاوز الأجيال والكوارث، ويؤكد أن المعرفة والبنية التحتية المستدامة كانت جزءًا من الوعي الحضاري المصري منذ بداياته.

الطوفان العظيم أنهى مرحلة من تاريخ البشر، لكنه لم يُنهِ أثر الحضارة المصرية التي تجاوزت الكارثة.
فصمود العمارة المصرية القديمة يثبت أن الحضارة الحقيقية تتجاوز الأفراد وتقف أمام الزمن والكوارث، وهو درس خالد يبرز أهمية بناء مجتمعات مستدامة ترتكز على العلم والمعرفة، لا على الأفراد أو الأحداث العابرة.
الدروس العلمية والسياسية والاقتصادية:

1. أهمية الاستقرار الحضاري:
المجتمع المتقدم قادر على التعلم ونقل المعرفة بسرعة، ويضمن استمرار الإنجازات عبر الأجيال.

2. العلم أساس البناء:
إدريس وضع الأسس العلمية قبل المشاريع المعمارية الضخمة والمعقدة، مما يبرز أهمية المعرفة قبل التنفيذ.

3. استمرارية الحضارة:
صمود العمارة القديمة يؤكد ضرورة البنية التحتية المستدامة والمخطط لها بدقة.

4. الحضارة كموروث عالمي:
تاريخ مصر المبكر يستحق إعادة الدراسة والاعتبار من قبل الباحثين والمهتمين بالعلوم الإنسانية والحضارية.

مصر منذ إدريس حتى نوح عليهما السلام تمثل رحلة الحضارة الأولى للبشرية، حيث التقاء المعرفة والعلوم والاستعداد الحضاري مع الأرض الخصبة.
إدريس جاء ليضع الأسس العلمية، والطوفان لم يبتلع العمارة، لتظهر رسالة واضحة:
الحضارة الحقيقية تتجاوز البشر وتقف أمام الزمن والكوارث.

ومن أجل ذلك، ندعو جميع الباحثين والمتخصصين والمهتمين بالشأن الثقافي والحضاري المصري إلى إعادة النظر بعمق فيما يُقال وما قيل عن مصر، وتحديدًا حول تواريخ الحضارة المصرية المبكرة.
وأثناء البحث والمراجعة لإعداد هذا المقال، اتضح لنا أن الحضارة المصرية أقدم بكثير مما يُعلن أو يتم تداوله، وأن ما وصل إلينا من آثار وبراهين تاريخية يعكس عبقرية وتفوق مصر الحضاري منذ أقدم العصور.
كما يجب التنويه إلى أن عشرات الملايين من القطع الأثرية والأماكن التاريخية قد ضاعت أو انجرفت مع الطوفان، ما يجعل ما وصل إلينا مجرد جزء محدود من عظمة مصر الحقيقية.

مصر تستحق كل تقدير، فهي الحضارة التي وُجد التاريخ ليكتبها ويحفظ كرامتها.

Loading