عبدالحليم قنديل

ربما لم يعد يثق عاقل فى كلام الرئيس الأمريكى ، وقد تصرف “جو بايدن” ـ العجوز ـ بطريقة أقرب لألعاب الصبيان ، وأخبر الصحفيين وهو يلعق “الآيس كريم” ، وقالها قاطعة مازحة معا ، أن الهدنة الموعودة فى فلسطين ستبدأ بعد غد “الإثنين” ، وترك المتابعين والمراقبين يضربون أخماسا فى أسداس ، فما من “دخان أبيض” ينبعث من غرف المفاوضات الماراثونية ، التى بدأت فى “باريس” ، ثم ذهبت إلى “القاهرة” ، ثم عادت إلى “باريس” بعد تعثر فى “القاهرة” ، ثم ذهبت إلى “الدوحة” على أمل عودة إلى “القاهرة” ، حيث يطمح المتفائلون بإتمام اللمسات الأخيرة ، وقد قال “بايدن” أنها ستكون آخر محطة ، وأن اتفاقا سيوقع لهدنة تستمر طوال شهر رمضان الفضيل وأيام عيد الفطر المبارك .
وسواء صدق “بايدن” أو تاه فى التفاصيل والمواعيد ، فإن المساعى جارية بالفعل ، وتشارك بها أمريكا من خلال وفد مخابراتها المركزية ، ومصر كذلك ، وقطر عبر رئيس الوزراء فيها ، إضافة لوفد “إسرائيلى” من “الموساد” و”الشاباك” والجيش ، ويبدو أن تقدما ما حدث ، وإن كانت المصاعب ظلت عالقة ، وتتجدد ، فالهوة واسعة بين اشتراطات كيان الاحتلال ، وبين مطالب المقاومة المنقولة عبر الوسيطين المصرى والقطرى ، بينما كوارث ومجازر الإبادة الجماعية تحكم خناقها على ملايين الشعب الفلسطينى فى “غزة” ، وعلى مشهد من العالم الذى يصمت ويتخاذل ويعجز عن وقف الإبادة ، وفضحه حرق الطيار الأمريكى “آرون بوشتل” لجسده أمام سفارة الاحتلال فى “واشنطن” ، بينما تواصل المقاومة الفلسطينية ملاحم القتال البطولية مع جيش الاحتلال ، من “حى الزيتون” بمدينة “غزة” ، وإلى شرق “خان يونس” ، وتزيد نزيف الخسائر العسكرية البشرية “الإسرائيلية” ، ومن نخبة الضباط فى لواء “جفيعاتى” وغيره ، وتمضى التطورات إلى وضع حرج ، يدفع الطرفين إلى طلب مصلحة ما فى الهدنة الممتدة لستة أسابيع وقد تزيد ، فالمقاومة الفلسطينية تسعى لتخفيف آلام الشعب الفلسطينى ، وكسب فسحة وقت لتكثيف إدخال المساعدات الإنسانية إلى “غزة” المحاصرة ، وتعزيز الصمود الأسطورى للشعب ، الذى يقتل ويباد ويجوع بالجملة ، والمعضلة التى تواجهها حركات المقاومة فى هذه الظروف ، أنها تريد سيناريو متصلا لوقف عدوان الإبادة كليا ، وكانت خطتها الأصلية ، أنها لا ترغب بتجزئة ورقة الأسرى “الإسرائيليين” لديها ، وهى ورقة ضغط رئيسية ، لكنها اضطرت تحت وطأة الإمعان فى التنكيل بالشعب وتدمير الاحتلال لكافة موارد الحياة ، وبهدف إحداث شروخ فى علاقتها بالشعب المعانى المذبوح ، أن تتجاوب مع تصور المراحل الثلاثة ، الذى بادرت إليه السياسة المصرية الرسمية قبل نحو الشهرين ، وبدت الإدارة الأمريكية متجاوبة معه إلى حد ما فى الظاهر ، وبهدف البحث عن مخرج ما لإنهاء الحرب ، وكانت الفكرة نفسها وراء إطار “باريس” الأول ، وإن اختفى التصريح بها فى تعديلات إطار “باريس” الثانى ، ربما لجذب “إسرائيل” إلى انخراط فى المداولات ، وإن ظلت فكرة المراحل الثلاث قائمة ، وهو ما تبدى المقاومة الفلسطينية مرونة وتجاوبا حذرا معه ، لا يضيع التضحيات فى “مكائد السياسة” على حد تعبير “إسماعيل هنية” رئيس المكتب السياسى لحركة “حماس” ، وعلى نحو محسوب ، ربما يأخذ فى اعتباره ديناميكية وآثار تنفيذ المرحلة الأولى على داخل الكيان “الإسرائيلى” ، فبرغم صراخ “بنيامين نتنياهو” وأركان حكومته وقادة جيشه ومجلس حربه ، وتهديداتهم الملتاثة المتواصلة باجتياح “رفح” فى جنوب الجنوب ، سواء قبل سريان هدنة المرحلة الأولى أو بعدها ، فإن مجرد سريان هدنة المرحلة الأولى لو جرى التوصل إليها ، والقاضية مبدئيا بإطلاق سراح 40 من الأسرى “الإسرائيليين” المدنيين ، مقابل مئات من الأسرى الفلسطينيين ، بينهم عدد كبير من ذوى المحكوميات العالية ، وربما من القادة الكبار للفصائل الفلسطينية ، إضافة لجلاء قوات الاحتلال عن مراكز المدن والتجمعات السكانية ، وفتح طرق لإعادة النازحين الفلسطينيين من الجنوب إلى الشمال ، فوق مضاعفة شاحنات المساعدات لمرات ، وإعادة تأهيل المستشفيات ، ونصب تجمعات خيام ومساكن إيواء متنقلة ، وكل ذلك وغيره ، مما قد يضاعف من خلافات الداخل فى الكيان “الإسرائيلى” ، مع فسح مجال لتزايد مظاهرات أهالى الأسرى ، مع بقاء الأسرى العسكريين والجثث فى يد المقاومة ، كذا التطور المحتمل لمظاهرات تطالب بانتخابات مبكرة ، والخلاص من حكومة “نتنياهو” وصحبه الأكثر تطرفا وعدوانية ، وهو ما لا يريح “نتنياهو” ، الذى يريد وضع العصى فى عجلات التفاوض غير المباشر ، وأقام من خلال مفاوضيه عقبات مضافة ، من نوع اشتراط سن معين للنازحين المراد إعادتهم إلى محال إقاماتهم الأصلية ، واستثناء الفلسطينيين الشبان فى سن الخدمة العسكرية ، وهو مصطلح لا تعرفه ساحة “غزة” أصلا ، فليس من جيش نظامى هناك ، إضافة لسعى “نتنياهو” إلى المصادرة الكلية على مسعى وقف الحرب ، واستعراض اللاءات القطعية ، على طريقة التصويت فى “الكنيست” بأغلبية غير مسبوقة ، ترفض إقامة أى دولة أو كيان فلسطينى مستقل ولو صوريا ، مما تطرحه الأمم المتحدة أو حتى الدول الغربية والولايات المتحدة نفسها أحيانا ، وتحت عنوان الرفض “الإسرائيلى” لما يسمونه “الإملاءات الخارجية” ، وكأن “إسرائيل” ـ وهى تفعل ـ تهزأ بالعالم كله ، وتعتبر أن الأمر كله مرهون بالإرادة “الإسرائيلية” المنفردة ، وبدعم “واشنطن” الإجبارى ، وإلى حد أن “نتنياهو” وجه صفعة مضافة إلى “بايدن” ، بعد إعلان الأخير عن هدنة “الإثنين” الموعودة ، واستند “نتنياهو” إلى استطلاع رأى صحفى للأمريكيين ، يؤكد كما قال أن أكثر من 80% بين الأمريكيين ، يؤيدون “إسرائيل” بصفة مطلقة ويعارضون “حماس” ، وكأنه يقول ويحذر “بايدن” ، أن رقبة الرئيس الأمريكى فى يده ، وبالذات مع إخفاق بايدن المحتمل جدا فى انتخابات الرئاسة المقبلة بعد شهور ، والتى قد تأتى بصديق “نتنياهو” الأوثق “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض ، بينما يحاول “بايدن” وإدارته الإفلات من مأزق السقوط ، عبر اتباع سياسة مزدوجة ، تفى تماما باشتراطات الدور الأمريكى كحكومة ثانية لكيان الاحتلال فى “واشنطن” ، وتحاول إنقاذ “إسرائيل” من طيش وانفلات أعصاب حكومتها الأولى فى “تل أبيب” ، بعد أن تبين للكافة عجز جيش الاحتلال مع أمريكا عن تحقيق نصر أو شبهة نصر فى حرب “غزة” ، التى تتطاير الحروب ونذر الحروب من حولها ، وتورط “واشنطن” فى صدامات خاسرة ممتدة من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان ، وتزيد أوضاع الأنظمة العربية المتعاونة حرجا وضيقا وهزالا ، وتكاد تنسف دور “واشنطن” فى المنطقة ، رغم احتشاد أساطيلها فى بحار المنطقة وخلجانها ، وبما قد يجعل “واشنطن” عارية من أى تأثير بالضغوط اللينة والخشنة ، ويدفعها أحيانا للتراجع لفظيا عن حالة التطابق الفعلى الكامل مع كيان الاحتلال ، والحديث المرسل عن تطبيع وسلام يحقق صوريا بعض الأمانى الفلسطينية ، من نوع إحلال سلطة فلسطينية جامعة “متجددة” محل حكم “حماس” وأخواتها فى “غزة” ، والتلاعب المكشوف بإمكانية الاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح الحربى ، وهو ما رد عليه “نتنياهو” باستغراق فى الأوهام ، وبإعلان ما أسمى “وثيقة نتنياهو” ، التى وعد فيها بإدامة احتلال “غزة” بعد الحرب ، وبإقامة مناطق عازلة أمنيا بعد غزو “رفح” ، وبتنصيب إدارات مدنية متفرقة من عائلات و”حمائل” فلسطينية ، ترتضى العمالة للاحتلال ، وكلها أوهام رجل طار عقله ، ولا يتعظ بالدروس القريبة والبعيدة ، فقد جرى نسف فكرة روابط القرى “الإسرائيلية” فى الضفة الغربية قبل أربعين سنة ، فما بالك بالوضع فى “غزة” ، وأغلب سكانها من المهجرين أصلا من مدن وقرى فلسطين 1948 ، وتسودهم الروح الوطنية ، التى تختزن محنة فلسطين بكل مراحلها وعذاباتها ، ولا نفوذ مرئيا فيها لعائلات أو “حمائل” ، وإن وجد شئ من ذلك عرضا ، وقبل أحدهم خطيئة التعاون مع الاحتلال ، فربما لا يستمر على قيد الحياة لساعات أو لأيام ، يلقى بعدها مصيره المحتوم بطلقة فى الرأس ، ويذهب إلى حتفه الموعود مع خطباء “الجمعة” ، الذين تصورهم “نتنياهو” فى وثيقته العبثية ، يصعدون أعواد المنابر ، ويدعون لنصرة الإمام “نتنياهو” بصفته خليفة المسلمين (!) ، وينسى “نتنياهو” عظات سابقيه فى تحدى “غزة” ، من “إسحق رابين” الذى عاش يحلم أن يصحو يوما من نومه ليجد “غزة” غرقت فى البحر ، إلى ” آرئيل شارون” الذى كانوا يسمونه “ملك “إسرائيل” ، ولم يجد فى النهاية ملاذا للتعامل مع “غزة” ، إلا أن يقرر إجلاء قواته عنها وتفكيك المستوطنات اليهودية فيها قبل نحو عشرين سنة ، و”نتنياهو” قياسا إلى “رابين” و”شارون” ، ليس أكثر من صبى أرعن .
ودعونا ننتظر ونرى ما سيجرى فى الأيام المقبلة ، فثمة سباق لاهث بين تفاؤل حذر بالمفاوضات ، وبين جولات الحرب ، التى قد تتسع ميادينها أكثر على خرائط اللهب

Loading

By عبد الرحمن شاهين

مدير الموقع الإلكتروني لجريدة الأوسط العالمية نيوز مقدم برنامج اِلإشارة خضراء على راديو عبش حياتك المنسق الإعلامي للتعليم الفني