في قلب أوروبا، تدور اليوم معركة شرسة… لكنّها لا تُخاض بالسلاح، بل بالقوانين والسياسات، ما بدأ كمبادرة صحية لمكافحة التدخين تحوّل بسرعة إلى ساحة صراع سياسي واقتصادي، تقف فيها التكنولوجيا والابتكار في مواجهة ما يصفه البعض بـ”التدخل البيروقراطي المُقنَّع”.

وزير الصحة الهولندي، فينسنت كاريمانس، أطلق شرارة الجولة الأخيرة من هذه المعركة، عندما دعا المفوضية الأوروبية إلى تسريع فرض لوائح صارمة لا تقتصر فقط على السجائر التقليدية، بل تشمل أيضاً بدائل أقل ضررًا مثل السجائر الإلكترونية وأكياس النيكوتين.
لكن، هل الحملة فعلًا من أجل “الصحة العامة”؟ أم أن هناك ما هو أبعد من ذلك؟

منتقدو هذه السياسات يرون أن الإجراءات الأخيرة تتجاوز الطب وتدخل في نطاق ما يمكن تسميته بـ”التقدُّم العلاجي الزائف”—حيث تُستخدم شعارات مثل “حماية المواطنين” كغطاء لفرض ضرائب جديدة، وعرقلة الشركات التي تقود الابتكار في تقنيات تقليل الضرر من التدخين.

وسط هذا الجدل، تبرز مفارقة لافتة: أوروبا التي تعاني من أزمة تنافسية خانقة، تُثقل كاهل الشركات الناشئة والمبتكرة بالمزيد من الأعباء التنظيمية والضريبية، في وقت تحتاج فيه بشدة إلى المرونة والإبداع الاقتصادي.

ويحذر الخبراء من أن هذا النهج قد يقود القارة إلى ما يشبه “الشلل البيروقراطي”، على حساب فرص النمو. السياسي الإيطالي الشهير ماريو دراجي، صاحب التأثير الكبير في السياسة النقدية الأوروبية، قالها بوضوح في تقريره الأخير: العودة إلى المنافسة تتطلب التحرر من البيروقراطية، وليس الغرق فيها.

لكن يبدو أن صناع القرار في بروكسل يسيرون عكس هذا الاتجاه. بدلاً من تحفيز الشركات التي تطوّر بدائل خالية من الدخان وتستثمر في تقنيات الحد من المخاطر، يُجرى خنقها بالتشريعات، كأن الابتكار أصبح هو “العدو” الجديد.

وكلما اقترب موعد مؤتمر الأطراف الحادي عشر (COP 11) لاتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطارية لمكافحة التبغ، والمزمع عقده في نوفمبر المقبل بجنيف، تتزايد التساؤلات: هل تنتهج أوروبا فعلاً المسار الصحيح؟

خبراء الصحة والمستهلكون على حد سواء يطالبون بتغيير جذري في السياسات: من الحظر والتضييق، إلى الاعتراف بالبدائل الإلكترونية كجزء من الحل لا جزء من المشكلة.

فالتجارب العالمية أثبتت أن الانتقال نحو منتجات أقل ضررًا قد يكون أحد أكثر المسارات فاعلية في تقليل الوفيات والأمراض الناتجة عن التدخين.

إذا أرادت أوروبا فعلاً أن تحمي صحة مواطنيها دون التضحية بمكانتها الابتكارية والاقتصادية، فعليها إعادة التفكير في سياساتها، لأن تكميم صوت التكنولوجيا تحت ذريعة “الصحة العامة” قد يكلّفها أكثر مما تتخيل.

Loading

By عبد الرحمن شاهين

مدير الموقع الإلكتروني لجريدة الأوسط العالمية نيوز مقدم برنامج اِلإشارة خضراء على راديو عبش حياتك المنسق الإعلامي للتعليم الفني