كتب_ عبدالرحمن شاهين
مثل العديد من الابتكارات التقنية فإن لخدمة الرسائل القصيرة (SMS) آباء كثيرين. لا يزال المؤرخون في جدل حول من جاء أولا بالفكرة الرائدة لاستخدام القدرات غير المستغلة في شبكات الهاتف المحمول في إرسال واستقبال رسائل نصية قصيرة. يتفق الخبراء هنا على أن أول مشروع قابل للتطبيق كان في عام 1985 وصاحبه مدير البريد الألماني، فريدهيلم هيلبراند.
في البداية تم السخرية من رائد الاتصالات الخلوية الألماني، هيلبراند، خاصة بسبب تحديده طول الرسالة النصية بـ 160 علامة (حروف أو علامات ترقيم) لضمان كفاءة الإرسال. كان المهندس الكهربائي على يقين من أن 160 علامة أكثر من كافية لنقل رسائل مثيرة للاهتمام، مجادلا في ذلك بأن الفاكسات والبطاقات البريدية لا تستخدم عادة علامات أكثر من ذلك.
تمكن مطور البرمجيات البريطاني نيل بابوورث بعد ذلك من إرسال أول رسالة نصية قصيرة في العالم بتكليف من شركة الاتصالات “فودافون”. لقد جرب تقنية الإرسال الجديدة منذ 30 عاما (بالتحديد في 3 كانون الأول/ديسمبر 1992) وأرسل 14 حرفا مشهورا الآن “Merry Christmas” (عيد ميلاد مجيد) من جهاز الكمبيوتر الخاص به إلى الهاتف المحمول لمدير “فودافون” ريتشارد جارفيس. في ذلك الوقت لم تكن هناك هواتف محمولة تُتيح إمكانية كتابة رسائل نصية.
بدأت الخدمة الجديدة تجاريا بعد 15 شهرا في معرض الكمبيوتر الدولي “سيبيت” في مدينة هانوفر الألمانية عام 1994. من منظور اليوم كانت تكلفة الإرسال مرتفعة للغاية. في البداية كانت تبلغ تكلفة الرسائل القصيرة 39 قرشا للواحدة، ولكن مع إدخال عملة اليورو، أصبحت 19 سنتا كسعر قياسي للرسالة النصية القصيرة. بعد ذلك جذبت شركات الاتصالات المزيد من العملاء عبر خصومات وعروض تصل إلى خمسة أو ستة سنتات للرسالة الواحدة.
تطورت “خدمة الرسائل القصيرة” لتصبح بقرة حلوب مربحة لقطاع الاتصالات. في عام 1998 تم تجاوز عتبة مليار رسالة نصية مرسلة في ألمانيا لأول مرة. بعد ذلك أخذ الأمر في التزايد بسرعة، وتم الوصول إلى الرقم القياسي في عام 2012 مع ما يقرب من 60 مليار رسالة نصية.
بالنسبة لشركة “دويشه تيلكوم” الألمانية للاتصالات وصلت الرسائل النصية القصيرة إلى ذروتها على الإطلاق في 2011/12، حيث تم إجمالا إرسال 4ر137 مليون رسالة نصية في ليلة رأس السنة واليوم الأول من السنة الجديدة.
جلبت طفرة الرسائل القصيرة أرباحا بالمليارات إلى خزائن شركات خدمات الاتصالات، لكنها غيرت أيضا الطريقة التي يتواصل بها الشباب على وجه الخصوص مع بعضهم البعض.
كانت كتابة النصوص على الهواتف المحمولة معقدة مقارنة بالهواتف الذكية اليوم: لم تكن هناك لوحة مفاتيح بأحرف، فقط الأرقام من 0 إلى 9 بالإضافة إلى علامتي * و #. كل رقم له عدة أحرف مخصصة له، على سبيل المثال: إذا أردت كتابة الحرف (f)، فعليك الضغط على المفتاح 3 ثلاث مرات على التوالي.
دفعت هذه الظروف إلى استخدام مصطلحات مختصرة لا يزال البعض يستخدمها اليوم على تطبيقات مراسلة مثل “واتس آب” وغيرها، فعلى سبيل المثال ترمز حروف “hdg” بالألمانية إلى عبارة “Hab Dich gern” (أنا معجب بك) و”GN8″ إلى “Gute Nacht” (ليلة سعيدة)، و”Akla” إلى “?Alles klar” (مفهوم؟).
حاليا لا يستخدم سوى عدد قليل من الأشخاص الرسائل النصية القصيرة في اتصالاتهم الخاصة أو المهنية. انخفض عدد الرسائل النصية المرسلة في ألمانيا بشكل مستمر سنويا منذ ذروته في عام 2012 (8ر59 مليار) ووصل إلى مستوى منخفض بلغ 7 مليارات رسالة في عام 2020. ومع ذلك سجلت الوكالة الاتحادية الألمانية للشبكات عام 2021 لأول مرة منذ التراجع المتواصل زيادة طفيفة إلى 8ر7 مليار رسالة.
من هذا التطور الأخير يستمد القطاع الأمل، حيث تقول تانيا ريشتر، رئيسة قسم التكنولوجيا في شركة “فودافون ألمانيا”: “كانت الرسائل النصية القصيرة ابتكارا منذ 30 عاما، لكنها لم تصبح بعد تاريخا بالنسبة للتكنولوجيا: ستظل معنا لسنوات عديدة قادمة”. لكن الزيادة الطفيفة في الرسائل النصية القصيرة العام الماضي ترجع في الواقع غالبا إلى استخدامها كثيرا في إطار تطبيقات تخص الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، حيث يُجرى عبرها إرسال أرقام المعاملات إلى الهاتف المحمول. في شركة “تليفونيكا أو 2” تضاعف عدد الرسائل في هذا المجال خلال السنوات الأربع الماضية.
هذا أيضا ما أكده الاتحاد الألماني لتكنولوجيا المعلومات “بيتكوم”، حيث قال المدير التنفيذي للاتحاد، بيرنهارد روليدر: “سوف تستمر الرسائل القصيرة في لعب دور في عالم الاتصالات.. ليس فقط بالنسبة للأشخاص الذين ليس لديهم هاتف ذكي، ولكن بشكل خاص لإجراءات المصادقة، مثل خدمات الدفع”.
لم تعد الرسائل النصية تحقق أرباحا بالمليارات كما كانت في السابق، لأن خدمات المراسلة القائمة على الإنترنت أصبحت مهيمنة، فهي مجانية تماما أو تكلف فقط رسوم اشتراك صغيرة مثل “ثيرما” في سويسرا. بالإضافة إلى ذلك يمكن لتطبيقات المراسلة مثل “واتس آب” أو “سيجنال” أو “تليجرام” أو “فايبر” أو “واير” أو “آي سي كيو” أو “آي ماسيدج” حماية المحتويات عبر التشفير.
يعرض مشغلو الشبكات الآن خدمة خاصة بهم متطورة عن الرسائل النصية القصيرة، والتي تُعرف باسم “RCS” (خدمات الاتصالات الغنية)، وتوفر أيضا تقنية التشفير. ومع ذلك لم تتمكن “RCS” حتى الآن من ترسيخ نفسها بشكل واضح سواء في ألمانيا أو على الصعيد الدولي. هذا يرجع في الأساس إلى أنها مدعومة فقط على نظام “أندرويد” الخاص بـ”جوجل”. تستخدم شركة “آبل” خدمة خاصة بها أيضا متطورة عن الرسائل النصية القصيرة لجهاز “آي فون”، وتُعرف الخدمة باسم “آي ماسيدج”، وهي غير متوافقة مع “RCS”.
هذا لن يتغير في المستقبل المنظور، حيث أكد الرئيس التنفيذي لشركة “آبل”، تيم كوك، مؤخرا رفضه لتقنية “RCS” في أحد المؤتمرات، وقال: “لا أستطيع أن أتخيل أن مستخدمينا يطلبون منا بذل الكثير من الجهد في ذلك”. وقبل ذلك قال أحد الحاضرين في نفس المؤتمر إنه يود إرسال مقطع فيديو من “آي فون” إلى والدته التي لديها هاتف ذكي يعمل بنظام “أندرويد”، ورد عليه كوك باقتضاب: “اشتري لوالدتك جهاز آي فون”.