الغلاء والصورة الباهتة للآباء في عيون الأبناء
بقلمي: جمال القاضي
ظلت العلاقة بين الآباء والأبناء بصورتها الرائعة لعقود طويلة ، يحترم فيها الأبناء كل من الأب والأم ، تربطهم علاقات فريدة وقوية . لاتزعزعها رياح الفقر أو عدم توافر الإحتياجات الضرورية ، لم يكن هناك تكنولوجيا الكترونية سوى مايتملك بعضها الأغنياء ، لكن تغيرة الأحوال وانتشر فيروس الغلاء لينهش ويأكل في جسد هذه العلاقة ، ويمزق خيوط الإرتباط ، فضعفت وتقطعت ، وباتت الصورة لهذه العلاقة باهتة ، وصار الجمع تفرقا ، تشتت معه الأفكار ، وفاق بالتفكير به حدود الخيال ، وكانت الإحتياجات فوق الصبر وقوى التحمل والإحتمال .
نعود للماضي البعيد حيث الفقر والجوع والحاضر حيث توافر الزاد ونقص الأموال
فكان الماضي يعيش فيه أفراد الأسرة أحلاما بسيطة ، لاتتعدى فيه الأمنيات حدودها ، يحلم فيه الأبناء بملبس بسيط ، يبدو عليهم مظهرها للنظافة ، ومن المأكل مايشبع بعض من جوعهم ، مقتنعين بمابيكون من هذا وذاك ، يجلسون ليلا متحدثين عن أمور يومهم ، مشقة الأب في عمله ، وتعب الأم في روتينها المنزلي ، وماذا كان في يوم الأبناء من الدراسة والمذاكرة ، ليس هناك حلم بإقناء هاتف محمول ، يكتفي الجميع بالجلوس أمام شاشة التلفاز والذي كان في نظهرهم أعظم إنجار واختراع ، يتباهون بأن لديهم مثل هذا الجهاز ، ومع القليل كان هناك إقتناع بما يستطيع أن يجلب لهم الأب ، راضين عن أحوالهم وكل مافيها .
لنذهب حيث وصل بنا الزمان ، إلى الحاضر وتكنولوجيا الإنفتاح ، تغيرت معها كل السلوكيات ، بين أب تخلى عن متوارثاته من العادات الأصيلة ، والتي وصلت إليه من قبل من أجداده ، ومقارنة لما يشاهده الأبناء على صفحات التواصل الإجتماعي ، فتغيرت الأفكار ، ومعها يستسلم كل من الأب والأم لرغبات أبنائهم ، فراحوا يشترون لهم كل جديد من وسائل الإتصالات الحديثة ، فصار العالم كله بكل مافيه من أفكار ومعلومات ووسائل معيشية في قبضة أيديهم وعلى الشاشات الصغيرة لهذه الأجهزة الحديثة ، راح الأبناء بعدها بمقارنات بين ماهم فيه وماعليه هذا العالم ، بين تقليد للأزياء ، وتطوير في وسائل وفنون الطبخ وغيرها .
ربما ظل الأب والأم صامدين مع هذا السباق ، موفرين لهم إحتياجاتهم بقدر مايستطيعون توفيره ، ومايتناسب مع دخولهم لفترة لم تكن طويلة ، ولكن لم يستمر الحال هكذا ، تفشى فيروس الغلاء ، ليأكل في جسد الدخول ، فأصبحت ضعيفة لاتلبي مايحتاجه الأبناء ، ظل الأب مع ذلك محاربا ومجاهدا من أجل لقمة العيش ، ومن أجل أن يوفر مالا يظن أن به يستطيع أن يبقى على نفس صورته التي كان عليها في الماضي ونفس الدور الذي كان عليه وسط أسرته ، فراح يعمل ليلا نهارا ، لايكتفي بعمل واحد أو وظيفة واحدة ، فغاب عن الأسرة ، وترك الزوجة وحدها في المواجهة والرد على ما يكون من الأبناء من تساؤلات عن سبب غيابه وتقصيرة في القيام بواجباته الأسرية .
حرصت الأم على أن تبقى صورة الأب كما هي في عيون الأبناء ، لكنها ضعفت أمام كثرة الطلبات فانحازت مستسلمة هي الآخرى لتصبح في صفوف المعترضين ، ليصف الأب بالضعف وعدم القدرة على القيام بدوره كونه المسئول عن الجميع ، ليصبح في النهاية جانيا في نظرهم ، وليس هناك جانيا سوى هذا الغلاء .
ولكن هناك سؤال وهو : من اين أتى هذا الفيروس اللعين للغلاء ؟
عدة إجابات مشتركة لتجيب بالرد على هذا السؤال فمنها :
جشع التجار وإستغلال أصحاب النفوذ والقلوب المتحجرة ، رغبة منهم على التربح السريع ، معلقين أسباب هذا الغلاء بالحروب وغيرها ، كما أن هناك سببا آخر وهو الإحتكار الذي يمارسه البعض على سلع معينة ، تحت غياب الرقابة وعدم المسائلة القانونية لهم ومحاسبتهم بالقوانين لتكون رادعا لهم وعلى إحتكارهم لها ،
لم يكن هذا الغلاء لنقص المعروض ، لكن معظم تلك السلع تتوافر بكثرة ، ويظل المعروض معروضا لفترة طويلة دون شرائه حيث نقص المال وعدم توافره .
وتحت الطلبات الملحة وعدم الإلتفات من الأبناء لتلك الأسباب ، يظل الأب عاجزا أمامهم ، حائرا بأن يوفر المال لتلك السلع ، وبين تحقيق رغبة أبنائه في ضرورة الحصول على كل مايرغبون ويحتاجون ، فبهتت صورته في أعينهم ولم يعد الأب القادر على تلبية إحتياجاتهم من ملبس به يتباهون أمام أصدقائهم ومأكل يتحدثون به بين زملائهم ، فكان الأب هو الشخص الضعيف من بين أفراد الأسرة ، فبات بين رحى من طواحين تسحقه أمنيات الأبناء وحجر الغلاء وقسوة الظروف إلى أن يشاء الله وتتغير الأحوال .
الغلاء والصورة الباهتة للآباء في عيون الأبناء