كتب _ عبدالرحمن شاهين
في عصر تسيطر فيه الشاشات وتتحكم فيه الخوارزميات، لم تعد القصة تدور حول الإبداع أو الموهبة أو حتى الأفكار الجيدة، بل أصبحت تدور حول من يتمكن من جذب الانتباه بأي وسيلة، حتى لو كان ذلك على حساب ذاته وكرامته. هنا، في “سوق الترند”، السلع ليست ملابس أو طعام أو تكنولوجيا، بل الهوية والقيم والمبادئ.
شاب اختار أن يتقمص شخصية فتاة، يتحدث بصوتها، ويقلد حركاتها، ويختار كلماته بعناية، ليس بدافع الفن أو التجربة، بل لأن المشاهدات والأموال تتزايد مع قدرته على الإقناع. على الجانب الآخر، فتاة ارتدت زي رجل، تسعى إلى الشهرة أو حضور بارز، حتى وإن كان الثمن هو التخلي عن أنوثتها. في زمن أصبحت الهوية وسيلة للتسويق، يسهل أن ترى رجالًا في صورة نساء ونساءً في صورة رجال، وأجسادًا تُعرض كما تُعرض البضائع، وكلمات تقال بلا وزن أو وعي. لكن من النادر أن تجد من يظل محافظًا على هويته، مهما كانت العوائق، إلا من رحم ربي.
لكن القصة لا تنتهي هنا. هناك تيار من صُنّاع المحتوى يعتقدون أن أقصر الطرق لجذب الجمهور تمر عبر الجسد المكشوف أو الكلمات البذيئة. صور مستفزة، وإيحاءات مباشرة، وكلمات تُقال بلا خجل، كل ذلك تحت شعار “الترفيه” أو “الحرية”. وقد ظهرت ظاهرة التحديات في البث المباشر، حيث يُجبر المشاركون في بعض الأحيان على القيام بأفعال مستفزة أو مهينة، بل وخطرة أحيانًا، لجذب الانتباه وزيادة عدد المشاهدات. يتفاعل المشاهد مع اللحظة، لكنه لا يدرك المخاطر الكامنة خلف الابتسامة أو التصرفات غير المدروسة، ولا يدرك الثمن الباهظ للشهرة الرقمية التي ينالها صانع المحتوى في لحظات، على حساب كرامته وقيم المجتمع.
ورغم أن المتابع قد يضحك أو يندهش، يبقى السؤال ملحًا: هل نحن أمام محتوى يُثري العقول، أم أننا في سوق مفتوح تُباع فيه القيم والهوية مقابل مشاهدات سريعة؟ لم تعد البثوث المباشرة مجرد وسيلة للتواصل أو الترفيه فقط، بل تحولت أحيانًا إلى ساحة للتسول الرقمي. يفتح البعض الكاميرا لنشر جزء من حياتهم أو لمزاح بسيط، وفي الوقت نفسه يطلبون المال والهدايا الافتراضية، مستغلين مشاعر التعاطف أو الفضول. دقائق من البث تتحول إلى فرصة لكسب المال بسرعة، بينما يصبح التفاعل البشري سلعة تُقاس بالنقود.
لكن وسط هذا الضجيج الرقمي، لا يزال هناك من يسعى لوضع حدود للحفاظ على توازن المجتمع، حيث تلعب الأجهزة الأمنية، خاصة الشرطة، دورًا هامًا في مواجهة المحتويات المخالفة على منصات التواصل الاجتماعي، سواء كانت تحريضية أو تخدش الحياء أو تنتهك القيم العامة. تدخلهم لا يعني تقييد الحريات، بل هو حماية من فوضى أخلاقية، وضمان أن تبقى حرية التعبير ضمن إطار يحترم كرامة الإنسان وقيم المجتمع. في زمن تتحكم فيه الخوارزميات بعقولنا، تصبح الحاجة إلى وجود جهة ترعى المصلحة العامة ضرورة لا ترفًا. في النهاية، ستبقى المشاهدات أرقامًا، لكن الكرامة، إذا بيعت مرة، فلا يمكن شراؤها مرة أخرى.