في أعماق الصحراء الشرقية، حيث تخبئ الرمال أسرار آلاف السنين من الحضارات، تتهيأ مصر اليوم لافتتاح فصل جديد في مسيرتها الاقتصادية والتعدينية، بعد أن كشفت شركة التعدين المصرية عن اكتشاف تجاري ضخم لرواسب الذهب في منطقة غرب جبل علبة بالقرب من شلاتين، باحتياطيات مبدئية تقدَّر بنحو 200 ألف أونصة من الذهب الخالص.

هذا الكشف ليس مجرد إنجاز جيولوجي، بل يمثل طفرة اقتصادية واعدة تعيد رسم خريطة الثروات المعدنية في مصر، وتؤكد قدرتها على التحول إلى مركز إقليمي لتعدين الذهب في الشرق الأوسط وأفريقيا، خاصة في ظل ارتفاع الأسعار العالمية للمعدن النفيس إلى مستويات تاريخية تجاوزت 4300 دولار للأونصة في أكتوبر 2025.

تفاصيل الكشف التجاري في غرب جبل علبة

تستعد شركة التعدين المصرية، التي تأسست عام 2018، لتقديم دراستها الخاصة بالكشف التجاري الجديد إلى هيئة الثروة المعدنية والصناعات التعدينية المصرية خلال الأسبوع الجاري، تمهيدًا لاعتمادها رسميًا وبدء مرحلة التطوير الفعلي للموقع.

وتشير النتائج الأولية إلى أن منطقة الامتياز الواقعة على بُعد 50 كيلومترًا غرب البحر الأحمر، و90 كيلومترًا جنوب غرب مدينة شلاتين، تحتوي على رواسب ذهب عالية الجودة تقدر بنحو 200 ألف أونصة، أي ما يعادل نحو 6 أطنان من الذهب الخام.

وتتوقع الشركة أن تستغرق الهيئة نحو 60 يوم عمل لمراجعة الدراسة، قبل الشروع في تأسيس شركة مشتركة بين “شركة التعدين المصرية” وشركة “شلاتين للثروة المعدنية” لإدارة المشروع وتطويره وفقًا للمعايير الدولية.

قفزة جديدة في إنتاج الذهب المصري

يأتي هذا الكشف في توقيت حرج تشهد فيه الأسواق العالمية ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار الذهب، ما يجعل الاستثمار في هذا القطاع أحد أكثر الخيارات أمانًا وربحية. ومع إنتاج مصر الحالي الذي يبلغ نحو 15.8 طن سنويًا من الذهب يتركز معظمه في مناجم السكري، حمش، وإيقات – من المتوقع أن يسهم منجم غرب جبل علبة في رفع الإنتاج الوطني بنسبة 10 إلى 15% خلال السنوات المقبلة.

وتقدّر العائدات المحتملة من هذا المنجم بنحو 700 مليون دولار على مدار فترة تشغيله، وهو ما سيعزز احتياطيات الدولة من النقد الأجنبي ويُخفف الضغط على العملة المحلية، خصوصًا في ظل التحديات الاقتصادية العالمية.

كما يتسق المشروع الجديد مع رؤية مصر 2030، التي تهدف إلى زيادة مساهمة قطاع التعدين في الناتج المحلي الإجمالي من أقل من 1% حاليًا إلى 5 أو 6% بحلول عام 2030، لتصبح الثروة المعدنية أحد أعمدة الاقتصاد الوطني بجانب الطاقة والزراعة والصناعة.

خطة لإنشاء مصنع متكامل لإنتاج الذهب

وفي خطوة متقدمة نحو التصنيع المحلي، تجري شركة التعدين المصرية مفاوضات مع الحكومة لإنشاء مصنع حديث لمعالجة الذهب في منطقة الاكتشاف باستثمارات تقدَّر بنحو 50 مليون دولار.

المصنع المزمع إنشاؤه خلال عامين سيكون مصممًا وفق أحدث التقنيات العالمية لاستخلاص وتكرير الذهب بكفاءة عالية، مما يعزز القيمة المضافة ويمنع تصدير الخام دون معالجته محليًا، فيتحول الذهب المصري من مورد خام إلى منتج نهائي عالي القيمة.

ومن المتوقع أن يوفر المشروع نحو 700 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، تشمل أبناء المناطق النائية في شلاتين وحلايب وأبو رماد، مما يساهم في تنمية الجنوب ويحدّ من معدلات البطالة، إلى جانب دعم الاقتصاد المحلي من خلال تحفيز الصناعات المساندة مثل النقل والبنية التحتية والخدمات اللوجستية.

التعدين المستدام والمسؤولية البيئية

تحرص شركة التعدين المصرية على تطبيق أعلى معايير التعدين المستدام، إذ تعتزم استخدام تقنيات صديقة للبيئة تشمل إعادة تدوير المياه وتقليل الانبعاثات الكربونية، بما يتماشى مع التوجه العالمي نحو خفض البصمة البيئية في قطاع التعدين.

كما تم التنسيق مع المجلس الأعلى للآثار لإجراء دراسات بيئية وأثرية دقيقة، نظرًا لقرب منطقة المشروع من مواقع تراثية وأثرية في محيط هاليب وشلاتين، لضمان حماية التراث الثقافي الذي تزخر به المنطقة.

وفي إطار التزامها بالمسؤولية الاجتماعية، أعلنت الشركة عن تخصيص نسبة من الأرباح لتمويل مشروعات تنموية تشمل بناء مدارس ومراكز طبية ومياه شرب نظيفة لأهالي شلاتين، لتصبح التجربة نموذجًا للتنمية المتكاملة بين الاقتصاد والمجتمع والبيئة.

مصر نحو مركز إقليمي لتعدين الذهب

يمثل اكتشاف غرب جبل علبة خطوة استراتيجية في طريق مصر نحو التحول إلى مركز عالمي لتعدين الذهب، ضمن خططها الطموحة لإطلاق مزاد دولي جديد لتراخيص الاستكشاف في نوفمبر 2025.

وتسعى الدولة من خلال هذه الخطوة إلى جذب شركات عالمية من كندا وأستراليا والإمارات والصين، بهدف توسيع الاحتياطيات المؤكدة من الذهب إلى أكثر من 500 ألف أونصة خلال السنوات القادمة.

كما يعزز هذا الاكتشاف الثقة في مناخ الاستثمار المصري، خصوصًا بعد نجاح الحكومة في تحديث قانون الثروة المعدنية وتبسيط الإجراءات أمام المستثمرين، مما يجعل مصر اليوم واحدة من أكثر الدول جذبًا للاستثمار في مجال التعدين في الشرق الأوسط.

بداية لنهضة معدنية شاملة
أكد الدكتور رمضان مَعن، رئيس قسم الاقتصاد والمالية العامة بجامعة طنطا، أن الكشف الجديد للذهب في منطقة غرب جبل علبة بشلاتين يُعد أحد أهم الاكتشافات التعدينية التي شهدتها مصر خلال السنوات الأخيرة، ويمثل فرصة اقتصادية هائلة قد تسهم في دعم الاقتصاد القومي وتعزيز موارد الدولة من النقد الأجنبي.

 اكتشاف يبشر بطفرة في قطاع التعدين

وأوضح الدكتور مَعن أن إعلان شركة آفاق للتعدين المصرية عن قرب الكشف التجاري الجديد للاحتياطي الذهبي الذي يقدر مبدئيًا بنحو 200 ألف أوقية (حوالي 6 أطنان من الذهب الخالص)، يعد مؤشرًا قويًا على أن المنطقة ما زالت تزخر بثروات ضخمة لم تُستغل بعد.

وأشار إلى أن الشركة أنفقت حتى الآن ما يزيد على 20 مليون دولار في أعمال البحث والتنقيب، وهو ما يعكس جدية المشروع وضخامة الاستثمارات التي تم ضخها، مؤكدًا أن بناء مصنع لإنتاج الذهب بتكلفة 50 مليون دولار خلال عامين فقط، يُظهر أن مصر تتجه نحو مرحلة تصنيع الذهب محليًا بدلاً من تصدير الخام فقط.

 بعد استراتيجي ضمن رؤية مصر 2030

وأضاف الخبير الاقتصادي أن هذا المشروع يأتي متسقًا مع رؤية مصر 2030 التي تهدف إلى جذب استثمارات بقيمة مليار دولار في قطاع التعدين، مشيرًا إلى أن الدولة تسعى إلى تحويل التعدين إلى ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي بعد نجاحها في تطوير صناعة الطاقة والبنية التحتية.

وقال إن منطقة شلاتين تمثل موقعًا استراتيجيًا فريدًا لقربها من الموانئ البحرية، ما يسهل عمليات النقل والتصدير، مؤكدًا أن الاكتشاف الجديد قد يكون الخطوة الأولى لتحويل شلاتين إلى عاصمة الذهب الجديدة في المنطقة، بما تمتلكه من مقومات طبيعية واستثمارية واعدة.

تعزيز العمل المشترك بين الدولة والقطاع الخاص

وأوضح الدكتور مَعن أن الشراكة المقترحة بين شركة آفاق للتعدين وشركة شلاتين للثروة المعدنية تمثل نموذجًا ناجحًا للتعاون بين القطاعين العام والخاص، مشيرًا إلى أن هذا النموذج يعزز الكفاءة في استغلال الموارد الطبيعية ويزيد من معدلات الإنتاج المحلي للذهب.

وأضاف أن الحكومة المصرية باتت تدرك أهمية تحفيز الاستثمارات التعدينية من خلال تحديث التشريعات وتبسيط إجراءات التراخيص، ما جعل مصر أكثر جاذبية للشركات المحلية والعالمية في هذا القطاع.

 أثر اقتصادي متوقع على المدى القريب

وتوقع الخبير الاقتصادي أن يؤدي هذا المشروع إلى خلق مئات فرص العمل لأبناء المناطق الجنوبية، وتنشيط الأسواق المحلية في محافظات البحر الأحمر وأسوان، فضلًا عن زيادة إيرادات الدولة من صادرات الذهب وتحسين موازين المدفوعات.

وأكد أن ارتفاع إنتاج مصر إلى أكثر من 15.8 طن من الذهب سنويًا يشير إلى أن الدولة تسير في الاتجاه الصحيح نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من إنتاج المعادن النفيسة، مما يدعم احتياطاتها النقدية من الذهب ويقوي الاقتصاد الوطني في مواجهة التقلبات العالمية.

شلاتين على خريطة الثروات العالمية

واختتم الدكتور رمضان مَعن تصريحه قائلًا إن “ما يحدث في شلاتين اليوم ليس مجرد كشف معدني، بل هو بداية لعصر ذهبي جديد في الاقتصاد المصري”، مشيرًا إلى أن استمرار الدولة في دعم هذا القطاع سيجعل من مصر لاعبًا إقليميًا رئيسيًا في صناعة الذهب والتعدين خلال السنوات المقبلة.

الذهب يعود ليصنع مستقبل مصر

منذ فجر التاريخ، كان الذهب جزءًا من هوية مصر الحضارية، من كنوز الفراعنة إلى مناجم النوبة القديمة. واليوم، يعود هذا المعدن النفيس ليكتب فصلًا جديدًا في قصة التنمية المصرية.

فالاكتشاف الجديد في غرب جبل علبة لا يمثل فقط مشروعًا تعدينياً، بل رمزًا لعزيمة مصر على استغلال ثرواتها بأيدي أبنائها، وبشراكة متوازنة بين الدولة والقطاع الخاص. إنه استثمار في المستقبل، يعيد رسم ملامح الاقتصاد المصري، ويضع شلاتين على خريطة العالم كمركز واعد لصناعة الذهب.

Loading

By عبد الرحمن شاهين

مدير الموقع الإلكتروني لجريدة الأوسط العالمية نيوز مقدم برنامج اِلإشارة خضراء على راديو عبش حياتك المنسق الإعلامي للتعليم الفني