بقلم/ سيد حسن الأسيوطي
الكاتب والسياسي ومنسق ائتلاف احنا الشعب ورئيس منتدى السلام العربي.
في مصر، لم يعد ارتفاع الأسعار مفاجأة تداهم المواطن، بل صار حقيقة مُوثَّقة بخطاب رسمي بعِلم الوصول؛ يصل إلى جيبه قبل أن يصل إلى وعيه. كل يوم تقريبًا يستيقظ الناس على زيادة جديدة: في فاتورة، في سلعة، في خدمة، حتى صار السؤال اليومي في البيوت: “غدًا ماذا سيرتفع؟” بدلًا من “غدًا ماذا سنشتري؟”.
المواطن لا يحتاج إلى نشرات اقتصادية ليدرك حجم الأزمة؛ يكفي أن يدخل إلى السوبر ماركت أو الصيدلية أو محل الخضار. هناك، في لحظة صامتة بين يده ومحفظته، يقرأ السياسة الاقتصادية كلها بلا أرقام ولا جداول.
سعر الصرف ينخفض… والأسعار «ثابتة على الارتفاع»!
خلال الفترة الماضية، شهد سعر الصرف انخفاضًا لأكثر من مرة، وعلى مدى زمني ليس بالقصير، حتى بدأ الناس يتساءلون طبيعيًا:
إذا كان الدولار ينخفض، فلماذا لا تنخفض الأسعار؟
المنطق البسيط يقول إن السلع المرتبطة كليًا أو جزئيًا بالدولار، يجب أن تتراجع أسعارها مع تراجع سعر الصرف، أو على الأقل يشعر المواطن بفارق ملموس. لكن ما حدث على أرض الواقع كان عكس ذلك تقريبًا؛ فهناك أسعار لم تتحرك إلا إلى أعلى، أو ثبتت عند قمّتها، وكأنها تعيش في عالم مستقل عن حركة العملة.
أبرز الأمثلة على ذلك:
أسعار الدواء التي تمس حياة كل أسرة، وكل مريض، وكل مسن.
السلع الأساسية من غذاء واحتياجات منزلية، التي يفترض أن تكون أكثر استقرارًا، لأنها عصب المجتمع وضمانته للهدوء.
ومع كل انخفاض في سعر الصرف، لم يشعر المواطن بانخفاض موازٍ في فاتورته اليومية، وكأن الأسواق تقول له:
“الارتفاع نصيبك الحتمي، أما الانخفاض فمجرد خبر اقتصادي عابر.”
تجار الكلام وقت الزيادة… وصمت القبور وقت الانخفاض
المشهد يتكرر بشكل بات مملًا ومثيرًا للغضب في نفس الوقت:
عند كل ارتفاع في سعر الصرف، يخرج علينا عدد من السادة مسؤولي الغرف التجارية واتحادات المستثمرين وغيرهم، في حلقات متتابعة وتصريحات مطوَّلة، يبرّرون رفع الأسعار بحجج جاهزة:
تكلفة استيراد.
ارتفاع مدخلات الإنتاج.
ضرورة “الحفاظ على استمرار الخدمة”.
حماية “المنشآت من الخسائر”.
وتُروَّج هذه الحجج في الإعلام حتى تصبح كأنها قدر لا مفر منه، وكأن المواطن هو وحده الذي يجب أن يدفع فاتورة كل تغيير، وكل أزمة، وكل قرار.
لكن عندما ينخفض سعر الصرف أو يستقر، يختفي هؤلاء “الجهابذة” فجأة، أو يتحدثون في قضايا أخرى، ويظهر بدلاً منهم خبراء يتحدثون عن:
“نجاح السياسات النقدية”
“تحسُّن المؤشرات الاقتصادية”
“السيطرة على التضخم”
ولا أحد منهم يتحدث بوضوح عن حق المواطن في أن يرى هذا التحسّن على طاولة طعامه، وفي فاتورة دوائه، وفي مصروف أولاده، كما يراه على شاشات الأخبار وكلام المؤتمرات.
المواطن بين الواجبات الكاملة والحقوق الناقصة..
المواطن المصري يؤدي كل واجباته تقريبًا:
يدفع الضرائب والرسوم.
يتحمل زيادات متتالية في الخدمات.
يلتزم بالقانون قدر استطاعته.
يصبر على الأزمات طلبًا للاستقرار.
لكن حين يأتي الحديث عن حقوقه الأساسية:
في العيش الكريم،
في سعر عادل للسلع الأساسية والدواء,
في حماية فعلية من جشع بعض التجار والشبكات الاحتكارية,
يجد أن صوته خافت، وأن من يتحدث باسمه قليل، وأن كثيرًا ممن يحتلون شاشات الحوار لا يذكرون المواطن إلا كرقم في معادلة أو كـ “مستهلك” عليه أن يتكيّف، لا كإنسان له حق أصيل في حياة آمنة ومستقرة.
غياب الرقابة… وترك المواطن فريسة للفوضى السعرية…
أخطر ما يواجه الأسواق اليوم ليس فقط موجات الغلاء، بل غياب الرقابة الحقيقية والفعّالة على الأسعار.
نرى:
نفس السلعة تُباع بأسعار متفاوتة من مكان لآخر، ومن سلسلة تجارية لأخرى.
اختلافات كبيرة في الأسعار دون مبرر منطقي أو واضح.
عروضًا وهمية تُعلن تخفيضات بينما السعر بعد “الخصم” يكاد يساوي أو يزيد على السعر القديم.
في ظل هذه الفوضى:
يتحول المواطن إلى فريسة بين أنياب بعض التجار الكبار والسلاسل التجارية.
تختفي الشفافية، فلا أحد يشرح للمواطن لماذا ارتفع السعر، ولماذا لم ينخفض عندما انخفضت التكلفة.
من اجل هذا تضعف هيبة الدولة في عيون الناس حين يرون القانون والقرارات لا تطبَّق بحسم على المخالفين.
الرقابة الحقيقية ليست بيانًا يُعلن عن “حملة على الأسواق”، ثم تعود الأمور كما كانت؛ بل هي:
تسعير واضح ومنضبط كما يطلق عليه سعر استرشاي علي السلع الأساسية.
حملات منظمة و عقوبات رادعة للمحتكرين والمتلاعبين.
شفافية في ربط السعر بالتكلفة وسعر الصرف.
بين خطاب الأرقام وواقع الجيوب
لغة الأرقام الرسمية قد تقول إن:
التضخم يتراجع نسبيًا،
وسعر الصرف يتحسن،
وبعض المؤشرات تسير في الاتجاه الصحيح.
لكن المواطن لا يتعامل مع هذه المؤشرات في بورصة أو في تقرير اقتصادي، بل يتعامل معها وهو:
يشتري الدواء لطفله،
أو يملأ عربة التسوق بما يكفي أسبوعًا واحدًا،
أو يدفع إيجار الشقة وفواتير الكهرباء والمياه والغاز.
هنا تظهر الحقيقة الوحيدة التي يعترف بها المواطن:
هل ما في يده يكفي ليعيش بكرامة، أم لا؟
فإذا كانت الأرقام تقول له “الوضع يتحسن”، بينما جيبه يقول “الوضع يزداد ضيقًا”، فمن الطبيعي أن تهتز الثقة في كل خطاب اقتصادي، مهما كان منمقًا ومليئًا بالمصطلحات.
إن أخطر ما في المشهد كله، أن ارتفاع الأسعار واقع مثبت بعلم الوصول؛ المواطن وقّع عليه فعليًا حين اضطر أن يدفعه.
أما الانخفاض، فهو محضر رسمي:
يُحرَّر في التصريحات
ويُوثَّق في البيانات،
ويُناقَش في البرامج،
لكن المواطن لا يوقّع عليه، ولا يشعر به، ولا يصل إلى حقيبة تسوق زوجته أو روشتة دواء أطفاله.
هكذا تتسع الفجوة بين:
خطاب السلطة الاقتصادية،
وتجربة المواطن اليومية،
وكلما اتسعت هذه الفجوة، زاد الخلل في العلاقة بين الدولة والمجتمع، لأن الناس لا تريد خطابًا جميلًا، بل سياسة عادلة تضعهم في قلب المعادلة، لا في هامشها.
من الشكوى إلى الحل… ماذا يجب أن يحدث؟
حتى لا يبقى هذا المقال مجرد صرخة ألم، لابد أن يتحول إلى دعوة صريحة للإصلاح، يمكن تلخيص ملامحها في خطوات واضحة، من حق المواطن أن يطالب بها، ومن واجب الدولة وأجهزتها أن تعمل عليها:
1. ربط حقيقي وشفاف بين سعر الصرف والأسعار.
إعلان آلية واضحة تُلزم كل من يرفع الأسعار مع ارتفاع الدولار، أن يخفضها نسبيًا مع انخفاضه.
كشف هوامش الربح في السلع الأساسية والدواء، حتى لا يتحول المواطن إلى ضحية لجشع غير مبرَّر.
2. تفعيل رقابة قوية لا استعراض إعلامي.
حملات دائمة على الأسواق والسلاسل التجارية، مع إعلان نتائجها للرأي العام، وليس مجرد صور وكاميرات.
تطبيق عقوبات رادعة على المحتكرين والمتلاعبين بالأسعار، تصل إلى إغلاق المنشأة ونشر أسمائهم، حماية لحق المجتمع.
3. وضع تسعيرة منضبطة للسلع الأساسية والدواء.
اعتبار الدواء والغذاء الأساسي أمنًا قوميًا لا يُترك لمزاج السوق وحده.
تسعير عادل يراعي تكلفة الإنتاج وحاجة المستثمر للربح، لكن يضع حق المواطن في الحياة الكريمة في المقام الأول.
4. تمثيل حقيقي للمواطن في الحوار الاقتصادي والإعلامي.
عدم ترك شاشات الحوار الاقتصادي حكراً على ممثلي الغرف التجارية وبعض الخبراء المرتبطين بمصالحهم.
إتاحة مساحة للصوت الشعبي والنقابات والجمعيات الأهلية الجادة، ليكون المواطن حاضرًا في النقاش، لا غائبًا عنه.
5. تحسين الدخل جنبًا إلى جنب مع ضبط الأسعار.
لا يكفي الحديث عن ضبط الأسعار إذا ظل دخل المواطن ثابتًا أو يتآكل؛ العلاقة بين الأجر وتكلفة الحياة يجب أن تكون محور أي سياسة اقتصادية.
إعادة النظر في الحد الأدنى للأجور، ودعم الفئات الأكثر احتياجًا بآليات عادلة وشفافة، بعيدًا عن التعقيد والبيروقراطية.
كلمة أخيرة…
ارتفاع الأسعار في مصر لم يعد قضية أرقام وجداول، بل صار قضية ثقة وعدالة ومسؤولية.
نعم، الأزمات العالمية حقيقية،
والضغوط الاقتصادية مفهومة،
لكن حماية المواطن وحقه في العيش الكريم ليست رفاهية، بل واجب دولة وضمير مجتمع.
لن يستقيم الحال إلا حين يصبح:
الارتفاع في الأسعار قرارًا مدروسًا شفافًا له مبررات واضحة،
والانخفاض استحقاقًا طبيعيًا ينعكس على حياة المواطن اليومية.
لا مجرد خبر يُقيد في محضر رسمي.
وإلى أن يحدث ذلك، سيظل هذا العنوان مرآة صادقة لوجع الناس:
«ارتفاع الأسعار في مصر بخطاب بعِلم الوصول والانخفاض بمحضر رسمي».
حفظ الله الوطن وتحيا مصر بوحدتها دائما وابدا.
![]()
