بقلم/ شحاته على ابودرب
كان الليل قد انتصف، حين كنت عائداً من عملي،أسير في زُقاقٍ صغير، قبل أن أصل إلى بيتي؛ الزُقاق ضيقاً، تخنقه العمارات السكنية العالية، مما يُصَعّب مهمة القمر، في إرسال الضوء إليه، حتى أعمدة الإنارة، لم تعد تعمل طوال الليل، بسبب إنقطاع الكهرباء،الذي برَّرته الحكومة بتخفيف الأحمال، فأصبح الزقاق مظلماً أغلب الليل.
أمرٌ غريبٌ و محيّر، لماذا يجلس هذا العجوز الغريب تحت بقعة الضوء الوحيدة في الزُقاق ؟ منظره يقول أنه ليس متسولاً، أو لصاً،
جلبابه الفضفاض الأبيض المائل للصُفرة، عمامته التي تبدو لي كأنها قطعةً تبقت من قماش الجلباب، شعره الأبيض المتدلي خلف أذنيه أسفل العمامة، متصلاً بشعر ذقنه، فأعطى لوجهه استدارة القمر، و أعطى لملامحه هيبةً و وقار.
إقتربت منه، و قد ازداد خفقان قلبي؛ كان قد أسند ظهره و رأسه على جدار أحد المنازل، و ثنى ركبته اليمنى،واضعاً كوعه عليها، ماداً يده للأمام، و يعُد على أصابعه، كما نفعل في التسبيح، عيناه مغلقتان؛ أو هكذا تخيلتهما.
ألقيت السلام عليه، ناظراً إلى وجهه، فرفع رأسه و رد بصوتٍ عميقٍ ولهجةٍ فصيحةٍ:
-وعليك السلام ياولدي, وليته يكون على العالم، لكنّها قد شارفت أن تبدأ.
تسمّرتُ مكاني، و انتابتني قشعريرةٌ بسيطة ، و سألته بلهجتي العامّية مستفهماً:
– هي إيه اللى شارفت أن تبدأ؟
– إعادة الترتيب ياولدي
– ترتيب إيه بالظبط؟
أغمض عينيه، وضم يده، حتى ظهرت العروق تحت جلد رسغه، ثم قال:
– النار الزرقاء ستحرق كل شئ، ستُطهّر الأرض من الخيانة، و العمالة، و الدياثة، ستُريق كل الدماء الباردة؛ الأرضُ ستبتلع كل الزهور الصفراء، و كل من استنشقَ رحيقها المسموم.
– إيه اللي نار زرقاء، و دماء باردة، و زهور صفراء ، و رحيق مسموم ؟ انت شكلك بتقول الغاز؛ ماتبسط كلامك عشان افهمك ياعم الشيخ،
فتح عينيه قليلاً، و أرخى قبضة يده، و لكن كأنه لم يسمع ما قلت، و أكمل قائلاً:
– ستشتعل النار الزرقاء مرةً أخرى، لتجلب السلامَ، و تعيدُ ترتيبَ الأدوار، و يرتفعُ الشِراعُ الأبيض، و تعلو راية الأحد، و تحكمُ شريعة السماء.
شعرت أنني أفهم ما يقول، و لكنني لا أستطيع أن أُفَسّره، كيف ذلك؟ إن الفهم يعني القدره على التفسير؛ وقفتُ صامتاً، و نظرتُ إليه في حيرة؛ فكأنه فهم ما يدور داخلي، فرمقني بنظرة عطفٍ، و قال
-طهّر نفسك، و أُنْجُ بقاربك الصغير، و دعّ السُفُن لرُبَّنِهَا، الذين يعرفون أسرار المحيط.
#شحاته_على_ابودرب
