كتب _ عبدالرحمن شاهين

لم يكن الغبار الذي يغطي ساحة قصر الباشا مجرد بقايا حجارة تهدمت تحت القصف؛ كان غبار الذاكرة نفسها.
كان المكان الذي ظل لثمانية قرون يحتفظ بأسراره، ينحني الآن تحت صمت ثقيل، وكأنه يحاول أن يخفي خجله من عريه بعد أن نُهبت روحه.

في صباح بارد، وقف “أبو مالك”، أحد فنيي الترميم، فوق كومة ركام. بيده فرشاة صغيرة، ينفض بها الغبار عن قطعة فخار منسية.
قال بصوت مبحوح:
نحن لا نُنقذ حجراً… نحن نُنقذ حياة.”

ذاكرة تحت الأنقاض

كان القصر سابقًا يفتح أبوابه كأنه يفتح قلبه، يروي للزائرين حكايات من العصر المملوكي والعثماني والروماني.
اليوم، لا أبواب له.
لا جدران كاملة.
ولا مقتنيات.

أكثر من 70% من مساحته اختفت، ومعها اختفت 20 ألف قطعة أثرية كانت تشكل “متحف غزة” الأهم.
لكن ما يؤلم أبو مالك وأكثر من أي شيء، ليس الدمار فقط… بل السرقة.

يقول:
حين عدنا بعد انسحاب الجيش، لم نجد شيئًا.. لا قطعة واحدة. المعروضات التي نشأنا ونحن نزورها، صارت في أماكن لا نعرفها.”

قلب المدينة الذي توقف عن النبض

قصر الباشا كان بالنسبة لأهالي غزة ليس مبنى أثريًا فقط، بل ذاكرة عائلة كبيرة.
كل حجر فيه كان يشبه الجدّ الذي يروي قصته كل ليلة، والآن… مات الجد تحت الركام.

كان الأطفال فيما مضى يركضون في ساحة القصر، يستمعون لحكايات المرشدين عن المماليك وعن “شعار الأسد المزدوج”.
اليوم، الأطفال أنفسهم يرون الدرج القديم محطمًا، والحديقة خالية، والوجوه التي اعتادت استقبالهم غير موجودة.

معركة مع الزمن

وسط الخراب، يعمل فريق صغير من المتخصصين وكأنهم يخوضون معركة ضد الزمن.
لا يملكون معدات حديثة.
لا يملكون رفاهية الوقت أو الأمان.
لكنهم يملكون شيء أكبر: إصرار على أن لا تُمحى غزة من الكتب ومن الحجر قبل أن تُمحى من الحياة.

إسماعيل الثوابتة، الذي كان يقف بجانب الفريق، قال بصوت يشبه النداء:
حين يُدمَّر الأثر، ينهار معه جزء من هوية الشعب… هذا ليس تدميرًا فقط، هذه سرقة للذاكرة.”

حين يسرقون الذاكرة

لم تكن قصة القصر وحده.
أكثر من 316 موقعًا أثريًا طالها القصف والنهب.
لكن قصر الباشا كان الأكثر وجعًا… لأنه كان الأكثر امتلاءً بالحياة.

كان المكان يشبه كتابًا مفتوحًا، واليد التي اقتحمته لم تمزق صفحاته فقط… بل أخذتها معها، وتركت الكتاب خاليًا.

ورغم كل شيء… بقي شيء اسمه الأمل

مع كل قطعة فخار يخرجها الفريق من تحت الأنقاض، يشعرون أنهم يعيدون نبضًا صغيرًا للقصر.
نبضًا قد يولد منه يومًا ما متحف جديد، وذاكرة جديدة.

يقول أحد العمال وهو يرفع قطعة منقوشة غطاها الفحم والغبار:
لو لم يبقَ سوى هذا الحجر… سنبدأ منه من جديد.”

Loading

By عبد الرحمن شاهين

مدير الموقع الإلكتروني لجريدة الأوسط العالمية نيوز مقدم برنامج اِلإشارة خضراء على راديو عبش حياتك المنسق الإعلامي للتعليم الفني