مقال.يكتبه: أودي الخولي

توافق اليوم ذكرى وفاة الراحل الكبير «نجيب محفوظ» الذي ولد بحي الجماليه في١١ ديسمبر ١٩١١. وليس بمقدورنا تفويت مناسبة كهذه من دون تعطير صفحاتنا باسمه . وبالمصادفة قرأت كتاب » صورة المجتمع المصرى فى أدب نجيب محفوظ.. بين الواقع والخيال « للدكتور »يحيى محمد محمود القصاص«، والصادر عن الهيئة العامة للكتاب، يتناول فيه الشخصية المصرية، وصورة المرأة والرجل فى مختلف مستوياتها الفكرية والاجتماعية، والدين كما صوره محفوظ فى المجتمع، والبناء والخصائص الفنية لأدب محفوظ، منذ أول أعماله »همس الجنون« عام 1938، التى قوبلت باهتمام نقدى كبير . وكتاباته المحملة بتجاربه الإنسانية ورؤاه الفلسفية ما جعلها تصل إلى أى قارئ بأنحاء العالم، ما يؤكد أن الأدب الحقيقى مرآة تنعكس عليها حياة الشعوب.

ويشير الكاتب إلى أن محفوظ خلاصة تفاعل أستاذين كبيرين أثرا فى شخصيته وفنه إلى آخر حياته، هما الشيخ «مصطفى عبد الرازق» أستاذ الفلسفة الإسلامية، والأستاذ «سلامة موسي». وارتبط محفوظ، شأن مجايليه، بالوظيفة الحكومية، حتى أحيل إلى المعاش ديسمبر 1971. وشارك فى الحياة الأدبية، ونشر فى الصحف والمجلات والكتب. وتنوعت كتاباته بين الرواية والقصة والأقصوصة والمسرحية والمقال، ودارت موضوعاته فى إطار فلسفي، وبدأ أعماله بكتابة التاريخ المصرى القديم، فقدم ثلاث روايات هى «عبث الأقدار» 1939، و«رادوبيس» 1943، و «كفاح طيبة 1944». وسرعان ما ترك التاريخ، ليلحق بالحركة الفكرية فى مصر، وخارجها، عبر روايات عن الواقع المعاصر، وبدأها بـ «القاهرة الجديدة 1945. ثم خان الخليلى 1946». و«زقاق المدق» 1947، و«السراب» 1948« والثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) وتوقف بعد ثورة يوليو 1952 عن الكتابة لخمس سنوات متصلة، ثم عاود إبداعه بـ «أولاد حارتنا» وتلتها «اللص والكلاب» و«الطريق» 1964، و«الشحاذ» 1965، و«الكرنك» 1974، و«قلب الليل» 1975 ثم «الحرافيش» 1977، ثم «ابن فطومة»، و «قشتمر» 1989. وتحولت أغلب رواياته وقصص كثيرة له إلى أعمال سينمائية وإذاعية وتلفزيونية، وترجمت إلى كثير من اللغات العالمية، وفازت به جائزة نوبل للآداب (13 أكتوبر 1988).

وبعين الأديب الناقد بأحوال الحياة والإنسان المتناقضة، رأى محفوظ التاريخ والمجتمع المصري، وكما أراد لفت الأنظار بثلاثيته عن مصر القديمة إلى قوة الشعب المصرى وكيف استطاع طرد الهكسوس والمعتدين من أرضه بالمقاومة والثورة وحرصه على الحرية، وكأنه كان يحث الشعب على نفض الهوان وغرس الحماس فى نفسه ليثور على الاحتلال الإنجليزي، كما طرد أجداده الهكسوس.

وانتقل نجيب محفوظ بعد ثلاثية مصر القديمة إلى المرحلة الواقعية الاجتماعية مثل »القاهرة الجديدة 1945«، التى رصد فيها صور الفساد الاجتماعى والسياسي، وبطلها «محجوب عبدالدايم» مثال للإنسان المطحون الذى لم يترك له الفقر فرصة الاختيار، ودفع به إلى أتون الفساد الأخلاقى والسياسى الذى حفلت به الرواية، فحياته موحشة، وقلبه مظلم، وعقله فى تطلع دائم. وكان طبيعيا أن ينهزم أمام سلطة فاسدة، وطبقة ارستقراطية تنعم بخير البلاد، وتترك للطبقات الكادحة فقرا يقضى على كل أحلامهم.

و حاول فى «خان الخليلي» 1946، كشف جوانب من حياة الشعب الكادح، وشريحة من البرجوازية الصغيرة التى لجأت إلى الحى الشعبى لتحتمى به من خطر غارات الحرب العالمية الثانية، والرواية واحدة من تناولات محفوظ لقاهرة القرن العشرين من الزاوية الاجتماعية، تعكس السلبية والضياع اللذين عانتهما مصر أثناء الحرب العالمية، وتظهر كثيرا من جوانب التفسخ والانحلال الذى أحدثته الحرب فى الأخلاق والقيم.

وتعد «زقاق المدق» 1947، امتدادا لما قبلها من أعمال، فقد غاص برؤيته فى تفاصيل الزقاق، وسيكلوجية سكانه، الذين يعانون كل ضغوط الفقر، وطرح سلبياته كرمز للمجتمع المصرى أثناء حرب فرضت عليه دون سبب منطقى ولا مصلحة للبلاد. وكأن الزقاق نداء مخلص، ودعوة حارة مؤمنة لدراسة وقراءة وفهم النفس المصرية فى جميع أنحاء مصر، وممثلا للبيئة بكل ما تحويه من أزمات تسبب فيها الساسة وولاة الأمر.

وتكشف «بداية ونهاية» 1949، عمق رؤية محفوظ قياسا على رواياته السابقة ـ فقد أو شك فيها على التنازل عن مفهومه فى عزل الطبقة المتوسطة عن الطبقات الأخرى ووصفها بصفات مطلقة ومثالية. والنماذج التى صورها فيها ترسم بوضوح صورة مجتمع تنعدم فيه الفرص المتكافئة، وتقوم فيه الحياة على التنافس الطبيعى المرير، ولا يستطيع الإنسان التقدم خطوة دون أن يدفع ثمنا غاليا. فعندما يكون ضعيفا اقتصاديا يكون قابلا للتشكل بإرادة الأقوى منه اقتصاديا.

وفى ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية). صور المجتمع القاهرى بين عاميّ 1917 و 1944 من خلال أسرة السيد أحمد عبد الجواد، وسجل فيها أحداثا وتحولات حدثت فى الواقع، كأننا أمام سردية لمؤرخ أو عالم اجتماع، وهى بهذا تعد تتويجا للمرحلة الواقعية، وسجلا اجتماعيا للعادات والتقاليد والأعراف التى يمكن الرجوع إليها للتعرف على ملامح المجتمع القاهرى فى عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. و«السمان والخريف» من روايات المرحلة الواقعية الجديدة، لما تحويه من أحداث قريبة العهد بنا، فهى تصور الصراع السياسى بين رجال الأحزاب السياسية إبان ثورة 1952 وبعدها. وتلت هذه المرحلة الهروب بالروح عبر روايات «الطريق» و«الشحاذ» و«دنيا الله». وحوت «ميرامار» الكثير من النماذج من شتى الطبقات المصرية، ويعيشون فى بنسيون واحد بالإسكندرية، ومعهم بعض الأجانب. ويرى دكتور يحيى القصاص صاحب كتاب «صورة المجتمع المصرى فى أدب نجيب محفوظ».. بين الواقع والخيال أن «ميرامار» كانت استراحة وهروبا لنجيب محفوظ نفسه، وأطلق بعض النقاد عليها وصف «تراجيديا السقوط والضياع».

أما «حكايات حارتنا» 1975، فقد سجلها فى ثمانى وسبعين حكاية جميعها، على لسان الراوي، مما يضعنا أمام سيرة ذاتية تنم عن شخصية الكاتب ومشاهداته، لذا يرى البعض أنها أقرب إلى السيرة الذاتية منها إلى الرواية، كونها تصويرا للواقع من خلال الحارة فى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وتعد ملحمة «الحرافيش» صورة ناضجة من الواقع المصرى الذى حاول محفوظ إظهار ما يعانيه من تخلف وجهل وفقر، ويرمز فيها إلى استبدال الحكام بالقوة، وبعدهم عن العلم والثقافة والديمقراطية،

ونجح فيها محفوظ إلى حد مدهش فى تصوير الواقع ممزوجا بخيال الفنان، الذى يريد لأهله العدل والطمأنينة، وإيجاد المدينة الفاضلة التى حلم بها الفلاسفة منذ القدم.

وبالنظر إلى شخصيات محفوظ الروائية نرى ثنائية المرأة والرجل بمختلف مستوياتها، فقد صور المرأة فى أوضاع متردية، حيث تعانى الفقر والحرمان، مثل «إحسان شحاتة تركي» التى باعت نفسها للسياسى الثرى فى «القاهرة الجديدة»، و«نفيسة» فى «بداية ونهاية» التى كانت ضحية للفقر والأوضاع الاجتماعية، و«زهرة سلامة» فى «ميرامار»، الفتاة الريفية الهاربة التى تعمل خادمة فى «بنسيون ميرامار» الذى تملكه سيدة أجنبية. وجعل محفوظ شخصية نفيسة وإحسان صرخة احتجاج ضد استغلال النساء فى المجتمع الذى امتهن كرامتهن. وقدم إمرأة الطبقة المتوسطة مثل نوال فى «خان الخليلي»، و«بهية» فى «بداية ونهاية» وصور المرأة الارستقراطية فى أدب محفوظ جاءت باهتة بلا قيمة ولا عمق، وهذا التجاهل الذى قصده المؤلف ما هو إلا تقليل و تنكر لهذه الطبقة التى يرى أنها امرأة بلا خلق ولا مبادئ مثل أرملة على باشا عاصم فى مجموعة «همس الجنون» (1938). ونرى أيضا صورة الأم التى أفرد لها محفوظ مساحات واسعة فى رواياته، فنجد«أمينة» فى «الثلاثية» و«بداية ونهاية»، والمرأة العصرية مثل الصحفية سوسن حماد فى «السكرية» صاحبة الآراء التقدمية فى مجتمع متخلف.

Loading

By hanaa

رئيس مجلس إدارة جريدة الاوسط العالمية نيوز